كعادة النظام المصري، يمنح الوزراء والمسؤولون أنفسهم ورجالهم سلطة احتكار الحقيقة والقرار، من دون خوف من مساءلة برلمان أو صحافة.
فالسلطة تدير أهم سلطتين للرقابة الشعبية بالـ"ريموت كونترول"، إلى درجة جعلت الوزراء منتفخين في مواجهة واقع يراه الجميع أسود، ويصرّ كلّ منهم على أنّ من يرونه كذلك، من العميان.
بلغ الأمر أن تتحول كلمات سلبية صادرة من مؤسسات دولية، حول الأزمات الاقتصادية التي تمر بها الدولة، بأن تتبدل، على لسان وزير، لتصبح إشادة بما يفعل!
عدلت مؤسسة موديز نظرتها المستقبلية للاقتصاد المصري من إيجابية إلى سلبية، ليعدلها الوزير إلى شهادة بـ"التفوق في الأداء"
فقد غير وزير المالية محمد معيط شهادة تقرير صادر عن مؤسسة موديز العالمية للتصنيف الائتماني الشهيرة حول توقعات الاقتصاد المصري، يوم 26 مايو/أيار الجاري، إذ عدلت المؤسسة نظرتها المستقبلية للاقتصاد المصري من إيجابية إلى سلبية، ليعدلها الوزير إلى شهادة بـ"التفوق في الأداء".
عندما تطّلع على كلام الوزير يوم السبت الماضي، تجد أرقاماً عن النمو المتزايد والفائض المتوقع في الموازنة، وتراجع البطالة، وتحسن في القدرات الإنتاجية، بفضل الإصلاحات الإيجابية، التي نوه بها تقرير "موديز" في جملة عرضية، بين مئات الكلمات السلبية.
فإذا ما اطلعت على الواقع، ورأي وزراء سابقين ورجال الأعمال وخبراء بالجامعات والمراكز البحثية، نجد نظرتهم تتوافق مع الحقائق التي ذكرتها المؤسسة الدولية، فتعلم كم أن الوزير اعتاد أن يقول كلاماً عجباً!
وصف وزير المالية قرار مؤسسة موديز تثبيت التصنيف الائتماني لمصر، رغم الصدمات الخارجية المركبة التي تواجه الاقتصاد العالمي والدول الناشئة، بأنّه" قرار إيجابي جداً".
ذكر الوزير نصف الحقيقة في بداية الجملة، لكنّه بدل الحقائق في آخرها، وتجاهل ما بعدها من جمل تحذر من المشاكل الخطيرة التي تواجه اقتصاد الدولة.
بالعودة إلى تقرير"موديز" الذي يقع في 7 صفحات، نجد الجملة الأولى وفقا للنص "تعكس النظرة المستقبلية السلبية ارتفاع مخاطر الهبوط على قدرة الدولة السيادية على امتصاص الصدمات الخارجية، في ضوء تراجع احتياطي النقد الأجنبي، اللازم لمواجهة مدفوعات خدمة الدين الخارجي خلال الفترة المقبلة، في حين أنّ الوضع الخارجي للاقتصاد لا يزال مدعوماً بالالتزامات المالية الكبيرة التي تعهدت بها دول الخليج، واحتمال وجود برنامج جديد لصندوق النقد".
يذكر تقرير "موديز": "تشديد شروط التمويل العالمي يزيد من خطر أن تكون التدفقات المالية أضعف مما نتوقع حاليا، إذ إنّ مصر لديها قابلية للتأثر بمخاطر واسعة النطاق بالأحداث، وتشمل المخاطر السياسية، مع الزيادة الحادة في تضخم أسعار الغذاء، وارتفاع تكاليف الاقتراض المحلي، الذي سيؤدي إلى تفاقم مخاطر السيولة، في حالة استمراره، مع تحديات قدرة الموازنة العامة على تحمل الديون، وكلاهما يمثلان ضعفاً طويل الأمد في ملف الائتمان في مصر".
موديز: تشديد شروط التمويل العالمي يزيد من خطر أن تكون التدفقات المالية أضعف مما نتوقع حاليا، إذ إنّ مصر لديها قابلية للتأثر بمخاطر واسعة
يبين التقرير في بيانه الصحافي العالمي المنشور كاملاً، في حين تجاهلت الصحف المحلية تفاصيله، أنّ "موديز "غيرت توقعاتها لمصر من المستقرة إلى السلبية، لانخفاض السيولة من النقد الأجنبي، مع تشدد المؤسسات الدولية والبنوك في شروط التمويل الخارجي، بما يزيد من مخاطر ميزان المدفوعات، وأن اضطراب سوق رأس المال العالمي جراء الغزو الروسي لأوكرانيا، أدى إلى خروج المزيد من السيولة من مصر، التي ضعفت بالفعل أثناء جائحة كورونا، مع زيادة مدفوعات خدمة الدين الخارجي، وتراجع صافي الأصول الأجنبية في البنك المركزي، وفي النظام المصرفي التجاري، بما يراكم المخاطر السلبية لقدرة الاقتصاد المصري على استيعاب الصدمات الخارجية السيادية، وسط أزمة تمويل عالمية قاسية.
يشير التقرير الفني إلى تفاصيل خروج الأموال الساخنة من مصر، التي قدرها رئيس الوزراء نفسه بنحو 20 مليار دولار، والتحديات والمخاطر التي تواجهها البلاد، في ظلّ الإنفاق على مشروعات أمنية واستثمارية، مزاحمة لأغراض الإنفاق على احتياجات المواطنين الأساسية.
ويوضح التقرير أنّ لجوء البنك المركزي لرفع الفائدة بنسبة 3%، بهدف إبقاء التضخم تحت السيطرة، سيرفع فاتورة الفائدة على الديون الحكومية، بما يزاحم الإنفاق على احتياجات المواطنين الأساسية.
يحذر التقرير من مخاطر الأزمة الاقتصادية على تراجع معدلات التوظيف، وارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، الذين يمثلون 25% من قوة العمل، وزيادة معدلات الفقر، وعدم المساواة بين الجنسين، مشيراً في الوقت ذاته إلى حصول مصر على درجة سلبية في ملف الحوكمة، التي ترفع معدلات الفساد وتضع المعوقات أمام الناس والمستثمرين.
خبراء جمعية رجال الأعمال المصريين، حذروا من أن "انسداد اقتصادي في مصر" أدى إلى هروب كثير من الشركات الدولية
لا تختلف توصيات "موديز" كثيراً عما ذكره خبراء جمعية رجال الأعمال المصريين، الأسبوع الماضي، الذين حذروا من "انسداد اقتصادي في مصر" أدى إلى هروب كثير من الشركات الدولية، مثل "فايزر" للأدوية و"كابري" لصناعة الشوكولاتة والحلويات، للعمل في دول عربية مجاورة.
ولا تبتعد كلمات التقرير عما حذر منه خبراء جمعية الاقتصاد السياسي والتشريع، من وزراء وأساتذة جامعات، أطلقوها في ندوة عامة، الشهر الحالي، إذ قالوا إنّ مصر "أمة في خطر" وإنّ الحكومة لا تملك حلولاً لمواجهة كارثة وطنية، إلّا بخفض قيمة الجنيه في كلّ مرة يتعرض فيها الدولار لضغوط وزيادة في الطلب.
وقال مختصون إنّ الأزمة يديرها من لا يعلمون شيئاً عن إدارة الاقتصاد، بما عمق العيوب الهيكلية في اقتصاد الدولة، حيث ضاعت مواردها والأموال التي اقترضتها على مشروعات خدمية وعقارات، بينما تراجع دور الزراعة والصناعة، وأصبح النمو الاقتصادي في منتهى الهشاشة.
أرجع الدكتور أحمد جلال، أستاذ الاقتصاد ووزير المالية الأسبق، الأزمة إلى غياب الرؤية السياسية، لأنّ الاقتصاد لا يدار إلّا بمشروع سياسي.
واتهم الدكتور جودة عبد الخالق، أستاذ الاقتصاد ووزير التضامن الاجتماعي الأسبق، الحكومة بأنها تدير برنامجاً لـ"الإفساد السياسي"، أدى إلى تدهور قيمة الجنيه المصري وزيادة التضخم والفوارق الطبقية بين المواطنين، إذ زادت أموال من يملكون ومعاناة غير القادرين عند شراء احتياجاتهم اليومية.
الكذب لدى المسؤولين له أساليب عديدة، إذ يعتقدون أنّ الكذب المستمر على الناس سيقنعهم، يوماً، بأنّ ما يقولونه صحيح
الكذب لدى المسؤولين له أساليب عديدة، إذ يعتقدون أنّ الكذب المستمر على الناس سيقنعهم، يوماً، بأنّ ما يقولونه صحيح، لكن فاتهم أنّ التلاعب بالأرقام يظل له حدود، لا سيما عندما يتعلق الأمر بشؤون الناس اليومية، فهم الذين يدفعون فواتير غذائهم وأدويتهم، ويعرفون ما يتحملونه من ارتفاع دوري للأسعار، ويواجهون الغلاء الفاحش وندرة السلع، ويعلمون قبل غيرهم أنّ كلام المسؤولين أصبح مجرد أكاذيب كُتبت بالأمر على الورق.