لماذا يتقاعد رجال الأعمال في مصر؟!

11 أكتوبر 2022
شح النقد الأجنبي بالسوق المصرية يدفع الجنيه نحو الانهيار (getty)
+ الخط -

حالة الاضطراب التي تواجهها الأسواق المصرية، ليس لها مثيل. الحكومة عاجزة، ولأول مرة تبحث عن حل. تطلب الإنقاذ من الخبراء ورجال الصناعة والأعمال، لكن في ظل نظام استمرأ الحلول السهلة، بوضع يديه في جيوب الناس ورجال الأعمال، كان يجب أن يتخلى عن السياسات التي أدت إلى نقص النقد الأجنبي، وزيادة الديون، وتوقف 80٪ من المصانع، ويعاني الباقون الأمرّين من أجل البقاء.

بعد شهرين من تصريحات الدكتور محمد معيط وزير المالية، بأن الحكومة ستفرج عن البضائع التي وصلت إلى الموانئ، قبل 17 مارس 2022، ووعده بأن البنوك ستوفر الدولار للموردين، لم تتحرك أية جهة لتنفيذ كلام الوزير. مازال الأمر على ما هو عليه، البضائع مكدسة في الموانئ منذ 6 أشهر.
تعرضت آلاف الشحنات للتلف، فالأمر ليس قاصرا على معدات هندسة أو صناعية، بل بأسمدة وأعلاف ومواد كيماوية، تفسد بمجرد تركها في العراء كل هذه الفترة. تلفت بضائع وسلع، وتحمّل الموردون، غرامات مخازن وأرضيات، تدفع لشركات عالمية، تتولى إدارة الموانئ وأخرى للجمارك وشركات التأمين.
لن يدفع رجال الأعمال الفاتورة بمفردهم، فكل جنيه ينفقونه سيتحول آليا على قيمة البضائع. وفي النهاية، المواطن هو الغارم الأكبر. إذا خرجت البضائع من الجمارك، ستنتفع الحكومة بعوائد الجمارك، ويفرح المستخلصون، ويسعد الموظفون العموميون بالجباية التي تمنح لهم قسرا وجبرا من أصحاب المصالح، وتتحرك عجلة الإنتاج، ولو لأيام، بينما سيظل المواطن عالقا بين الغلاء الفاحش في الأسعار والتضخم، وقيود الاستيراد التي لن تنتهي في الأجل القريب.
شح الدولار سيدفع الحكومة إلى مزيد من القيود، فرغم سماحها للبنوك العامة بجمع الدولار، عبر طرح شهادات بالدولار بأعلى فائدة عالمية، فإن الطريق إلى المزيد من الدولارات الطازجة مازال وعرا.
انتهى عهد المال الرخيص، فلن تجده الحكومة من قروض جديدة، ولن تستطيع طرح سندات دولية، في ظل خسائر فادحة يتعرض لها سوق الأسهم والسندات، ستستمر لفترة زمنية.
تعلّق الحكومة الأمل على القطاع الخاص، ليشاركها في تحمّل المسؤولية تجاه الأزمة المالية الطاحنة. تريد من القطاع الخاص أن يهرول للأمام، بينما تربط قدميه في أوتاد صلبة.
أمر ملفت للغاية، أن نجد كثيرا من رجال الأعمال، قد آثروا البقاء في منازلهم، فمنهم من خفف أعماله إلى أقل مستوى، ومنهم من توقف تماما، ومنهم من ينتظر المزيد من الكوارث، لعدم قدرته على مغادرة السوق بدون آلام عميقة.
أخبرني صديق قديم من أصحاب الملايين، أنه فضّل الابتعاد عن عالم البيزنس والعيش بعيدا عن الأضواء، لأن النظام -الذي مازال يدعمه سياسيا- لا يريد أن يشاركه أحد في اتخاذ قراراته، أو توجيهه للأعمال الصحيحة التي تفيد الدولة وتعيد الهدوء إلى الاقتصاد وراحة البال للمواطنين.

فرض النظام سياساته العرجاء منذ سنوات، وعندما اصطدم بفساد أعماله، والنهج الذي يسير عليه، يُرجع كل الكوارث للظروف الدولية.
يقول صديقي إن مشكلة القائمين على السلطة، إنكار الواقع الذي صنعوه بأنفسهم، ولم يقدروا على تنفيذ أبسط مبادئ تحرك الاقتصاد، وتحافظ على الحد الأدنى لحياة إنسانية كريمة. لذلك ابتعد صديقي وآلاف معه، عن المشهد، حتى لا يوضع في خانة الأعداء. فالنظام حاليا لا يتعامل إلا مع أباطرة رجال الأعمال، فكل من لديه الملاءة المالية، فوق 500 مليون جنيه، سيكون من القادرين على التعايش مع النظام، وعدم المساس بأعمالهم، بل هناك من يسعى إلى مشاركتهم، بمزيد من الأعمال التي تضمن لهم المزيد من الربح وتكالب رجال السلطة.
سيظل الاستثمار في القطاع الخاص ضعيفا، حتى في ظل وجود أعداد منه تحقق أرباحا ضخمة، لأن الحكومة لا تملك الإرادة للالتزام بكلمتها، إلا للشركات الدولية التي تمكنت من توفير الدولار والنقد الأجنبي، من مصادرها، للإفراج عن بضائعها في الجمارك.
وعدت الحكومة بإنهاء مشكلة المصانع المعطلة، خلال شهر أو شهرين، وهي تعلم أنها عاجزة عن توفير تلك الحلول. لقد استدانت كميات ضخمة من الديون، واشترت كميات أكبر من السندات، وأقامت مشروعات لا عائد من ورائها، فتكاثر الديّانة على الأبواب.
قلْب النظام معلّق بقرض من صندوق النقد الدولي، وبيع - على وجه السرعة - عشرات الشركات المنتجة، من أجل توفير سيولة يسدد بها أقساط الدين الخارجية المطلوبة في الأسابيع المقبلة، تبلغ 5 مليارات دولار.
هذه المبالغ صعب توفيرها حاليا، وإذا ما توافرت فهناك آلاف الالتزامات الأخرى على الدولة، التي يجب أن تلتزم بها، وعلى رأسها الخبز والأرز والمواد البترولية، التي بدونها ستتعرض الدولة لاضطرابات اجتماعية، لن ينجو من عواقبها أحد.
ستلجأ الحكومة إلى مزيد من التسويف، أمام عجزها عن الحل، فإذا كان ذلك ينفع مع عوام الناس، الذين يجوعون، ويتألمون من الغلاء، إلا أنهم يعيشون على أمل أن تنصلح الأحوال في المستقبل، فإن رجال الأعمال لن ينسوا ما تتعرض له أعمالهم من مخاطر وأموالهم إلى التبديد.
سيختفي المزيد من رجال الأعمال، ولكن هذه المرة، لن تتجه الأغلبية إلى منازلها، في ظل سباق محموم في المنطقة العربية وأنحاء العالم، على جذب رؤوس الأموال وأصحاب الخبرات، وتقديم التسهيلات، التي يمكن أن تخرج اقتصاديات الدول من أزماتها العنيفة.

لم تعد المخاطر متوقفة عند حدود الأسواق، لكن الخطر الأكبر عندما تكون الأنظمة والحكومات تسير عكس التيار، وتحاول أن تسيطر على حركة السوق، وتهيمن على كل الصناعات والأعمال، وتصنع رجال أعمال من داخل أروقة السلطة على هواها، لمجرد أنها لا تثق إلا في رجالها، فتنتج طبقة برجوازية جديدة، تدين بولاء مطلق للنظام.
تثبت الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العالم، أن عصر الحكومات القابضة على الشعب والسلطة والمال معا قد ولّى، فعليها أن تكون خادمة للشعب ومسيرة رشيدة للمال والأعمال، كي تضمن أن تظل في مقاعدها، وإلا فإن التسامح الذي تجده من رجال الأعمال، لن تراه من شعب جائع أو شباب عاطل ثائر.

المساهمون