في ظل الحالة المتردية التي وصلت إليها الأوضاع المعيشية في مصر، بعد فقدان الجنيه ما يقرب من 50% من قيمته، وما ترتب على ذلك من ضياع مدخرات المصريين، وانخفاض القيمة الحقيقية لأجورهم، لم يعد المصريون راغبين في الاستماع إلى تحليلات للأزمة، أو تصورات لما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع.
وربما يكون المصريون معذورين في ذلك، حيث تأتي أمور مثل اقتراح حلول أو أفضل فرص الاستثمار الحالية، في مرتبة متقدمة في قائمة أولويات ما يرغبون في سماعه، مقارنة بمحاولات تفسير ما حدث، أو إلقاء الضوء على أسبابه.
ومع فهمي وتقديري لكل ذلك، يتطلب الأمر أحياناً تذكر بعض الأحاديث التي سبقت العاصفة الاقتصادية التي هبت على مصر، اعتباراً من الربع الأول من العام الماضي 2022، إذ ربما يكون فيها بعض الفائدة.
في 2019، جمعني لقاء برئيس وزراء مصري سابق لا أشك في كفاءته، وكان يعرف تحفظاتي على كثير من السياسات المتبعة وقتها، حيث كنا نقف في معسكرين مختلفين في أغلب القضايا.
كان الرجل يعرفني جيداً بسبب لقاءات عدة جمعت بيننا من خلال بعض "المعارف" المشتركين، وكان يصر في كل لقاء يجمعنا على أن يبادرني بالسؤال عن رأيي في الظروف والسياسات الاقتصادية، والأوضاع السائدة بصفة عامة.
لم أكن أحب أن أخوض في التفاصيل، فكنت أكتفي بالقول إني غير معجب بما يحدث من توسع في الاقتراض، خاصة ما يأتي بالعملة الصعبة، في ظل ما تعانيه البلاد من عجز مزمن في الحساب الجاري، حيث يؤدي هذا النوع من القروض إلى زيادة الضغوط على العملة المحلية، وعلى احتياطي النقد الأجنبي في البلاد.
وفي إحدى المرات، صرحتُ له بما كان لي من تحفظات على الاقتراض من بعض الدول الخليجية، وتحديداً الإمارات والسعودية، بسبب ما قد تمنحه تلك القروض للدولتين من حقوق أو امتيازات، قد لا تكون دائماً في صالح بلدنا.
هنا انتفض صاحبي، أو معاليه، متسائلاً عما يمكن لأي من الدولتين أن تفعله! فقلت له إننا قد نضطر لبيع بعض الشركات أو الأراضي لهما، مقابل ما قد نعجز عن سداده من ديون، أو ما نرغب في توفيره من دولارات، بعد أن يفنى ما حصلنا عليه من قروض.
وقتها قال لي الرجل "وماذا في ذلك؟ هل سينقل هؤلاء الـ"..." الأراضي أو الشركات إلى بلادهم؟ فأدركت عندها أن لا جدوى من استكمال النقاش.
بعدها، وفي 2020، جمعني لقاء تلفزيوني (على الهواء) مع برلماني حالي، يترأس واحدة من أهم لجان البرلمان المصري، ويقول إنه عمل لسنوات مستشاراً للبنك الدولي، وهو ما لم ألحظ علامات له إلا أناقة مظهره. كان الحوار يدور حول احتياطي مصر من النقد الأجنبي، في ظل عجز آخذ في التفاقم في الحساب الجاري. قلت إن الاعتماد على ما جاء إلى البلاد من دولارات في صورة أموال ساخنة في سد عجز الحساب الجاري هو خطأ كبير، كونه يعطي انطباعاً بأن الأمور جيدة، بينما هو قنبلة موقوتة، يمكن أن تنفجر في أي لحظة. احتد الرجل، واتهمني بارتكاب "خطأ مهني" كبير، لأن الحكومة المصرية تحتفظ بدولارات الأموال الساخنة في حساب بعيد عن الاحتياطيات، وأنها لا تستخدمها في سداد التزاماتها، وفقاً لقوله.
وفي عام 2021، كنت أتحدث هاتفياً مع صديقي رئيس أحد البنوك الأجنبية العاملة في مصر، وهو رجل على قدر كبير من العلم والأخلاق، وكان قريباً لفترات طويلة من دائرة صنع القرار في البنك المركزي.
وفي معرض حديثنا عن أحوال الاقتصاد المصري، سألت صديقي: "ما كل هذا التوسع في الاستدانة من الخارج؟ وهل نحن قادرون على سداد خدمة هذه الديون، من أقساط مستحقة وفوائد؟". قال لي صديقي ببساطة: "الاقتصاد يكبر، وتكبر معه قدرتنا على الاقتراض". وضرب لي مثلاً بالعميل الذي يأتي للبنك طالباً الحصول على تسهيل، فيُمنح تسهيلاً بمبلغ معين، ومع مرور الوقت وزيادة دخله، يمكن للبنك منحه تسهيلاً بمبلغ أكبر وهكذا. قال صديقي إنّ حالة الاقتصاد المصري تشبه حالة ذلك العميل، وإن زيادة الديون الخارجية تعني زيادة ثقة المقرضين في الاقتصاد المصري!
لا أسوق هذه الأمثلة لإثبات عبقريتي وبعد نظري، ولا أدعي أن قدرتي على تحليل الأوضاع الاقتصادية تفوق قدرتهم، وإنما أعتقد أن رغبة هؤلاء في نجاح السياسات الاقتصادية وانتعاش الاقتصاد المصري، مع الكثير من الدعاية الإعلامية المضللة، أعمت بصيرتهم، وحجبت عنهم الحقيقة.
لم يرَ المسؤولون الثلاثة ما رآه الملايين من متوسطي العلم والفكر والثقافة، من تردي الأوضاع، وتراجع النشاط الاقتصادي، وتزايد عجز الحساب الجاري، والارتفاع المستمر في الدين الخارجي، بالتزامن مع التوسع في إنفاق العملة الأجنبية على بنود ليست ذات أولوية، أو لا تؤتي ثمارها إلّا بعد سنوات، وبما لا يزيد عجز الحساب الجاري إلّا اتساعاً.
توغلت الإمارات والسعودية في الاقتصاد المصري، وزادت سيطرتهما على القطاعات المهمة فيه، وما زلنا نحاول إقناعهما بشراء الشركات الناجحة، تارة بتخفيض قيمة الجنيه أمام دولاراتهم، وتارة أخرى بتخفيض قيمة الأصول المعروضة، فيتدللون للحصول على امتيازات أكبر.
هربت الأموال الساخنة خلال الربع الأول من عام 2022، فتعرّضت البلاد لهزة كبيرة، اقتربت بها من حافة الإفلاس، لولا دعم "الأشقاء الخلايجة"، لندرك جميعاً أنّ "جيب" البنك المركزي المصري كان واحداً، جمع فيه احتياطي النقد الأجنبي مع الأموال الساخنة، على عكس ما اعتقد البرلماني الأنيق.
ومع ارتفاع الدين الخارجي المصري خلال السنوات الأخيرة، وتزايد احتياجنا للاقتراض مجدداً لسداد ما يستحق من الدين، بدا واضحاً أن قدرتنا على الاقتراض قد زادت بالفعل، كما قال الصديق المصرفي، بينما أثبتت قدرتنا على السداد تراجعاً، لدرجة أننا أصبحنا لا نملك إلا الدعاء... ولك الله يا مصر.