كيف حوّل بوتين القمح إلى سلاح فتاك؟

28 يونيو 2022
أزمة القمح تتمدد عالمياً (Getty)
+ الخط -

احتفظ القمح بمكانة تاريخية كسلعة عالمية ورمز للسيادة والحضارة والثروة الغذائية على حدٍ سواء. واشتهر باستخدامه عبر التاريخ كسلاح فعال وحاسم في الأزمات السياسية والمواجهات العسكرية.

استخدمه زعيم الاتحاد السوفييتي جوزيف ستالين، لإخضاع المزارعين في أوكرانيا في الفترة ما بين 1932 و1933، وإجبارهم على العمل في المزارع الجماعية، ومصادرة مزارعهم الخاصة، من خلال اقتحام البيوت ومصادرة ما بها من قمح وخبز، وهي السياسة التي أودت بحياة 4.5 ملايين شخص.

واستخدمته الولايات المتحدة ضد العرب لما قطعوا البترول عن الغرب في حرب أكتوبر 1973. وقال هنري كسينجر، ثعلب الخارجية الأميركي: "سنعطيهم بكلّ قطرة بترول حبة قمح". ووضعت معادلة البترول في مقابل القمح. وأجهضت، بالترغيب والترهيب، خططاً عربية للاكتفاء من القمح، حفاظاً على توازن القوى بين سلاحي القمح والبترول.

واستخدمه ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا، كسلاح للسيطرة على السكان في ولاية البنغال الهندية الذين انتفضوا ضد الاحتلال الإنكليزي، واستغل موجة الجفاف بالولاية في عام 1943، ومنع الأسطول التجاري البريطاني الذي كان في أستراليا من توصيل القمح والأرز بهدف إخضاعهم وتقويض حركة الاستقلال، ما أدى إلى مقتل ثلاثة ملايين ونصف المليون هندي جوعاً.

واستخدمه جورج بوش كسلاح حاسم في إخضاع نظام صدام حسين خلال عقد التسعينيات تمهيداً لاحتلال العراق. وتحت غطاء النفط مقابل الغذاء، تسبب في وفاة 1.72 مليون طفل عراقي وهجرة ثلاثة ملايين من الكفاءات المهنية.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

غياب القمح لأسباب مناخية، كالجفاف والفيضانات، أو لسوء تدبير وإدارة المخزون الاستراتيجي، يؤدي إلى اضطرابات شعبية، وتهديد السلم والأمن المجتمعي، وتهديد استقرار الأنظمة السياسية. قبل ألف عام تقريباً، سجل المقريزي مجاعة في مصر، أطلق عليها المؤرخون "الشدة المستنصرية"، وفيها ارتفعت أسعار القمح ونفد من المخازن، واختفى الخبز من الأسواق بسبب انحسار مياه النيل وغياب الفيضان، وخيّم شبح الجوع والموت على القُطر المصري سبع سنين.

في منتصف سنة 2010، دمر الجفاف الشديد والحرائق 20 بالمائة من محاصيل الحبوب في روسيا. فأعلن رئيس الوزراء في حينه، فلاديمير بوتين، خلال جلسة متلفزة لمجلس الوزراء، حظر روسيا تصدير 21 مليون طن من القمح والدقيق. وتوقعت صحيفة آسيا نيوز، التي نقلت الخبر أن يؤدي الحظر إلى زيادة الأسعار العالمية للخبز، وأن يتسبب في تجويع مناطق بأكملها في الشرق الأوسط. ولم تمر عدة أشهر حتى وقعت أزمة الخبز في المنطقة العربية، ثم تفجرت ثورات الربيع العربي، وكان رغيف العيش أول مطالبها، وثارت الجماهير على الأنظمة التي أهملت الاكتفاء الذاتي من القمح.

في منتصف سنة 2010، دمر الجفاف الشديد والحرائق 20 بالمائة من محاصيل الحبوب في روسيا. فأعلن رئيس الوزراء في حينه، فلاديمير بوتين، خلال جلسة متلفزة لمجلس الوزراء، حظر روسيا تصدير 21 مليون طن من القمح والدقيق

بعد حرب روسيا على أوكرانيا، أوقف بوتين صادرات القمح الأوكراني في أوائل شهر مارس/آذار. وقبل الحرب بشهرين، حظر تصدير القمح الروسي. وصلت أسعار الحبوب إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، وفق مؤشر أسعار الغذاء العالمي لمنظمة الأغذية والزراعة "فاو". وخرجت عناوين الأخبار تتحدث بالخط العريض الأحمر عن نقص الغذاء في جميع أنحاء العالم. وحذر الخبراء من مجاعة عالمية.

وارتفعت الأسعار إلى درجة أن بورصة شيكاغو، إذ يتداول التجار أسعار عقود القمح المستقبلية، وصلت إلى حدودها القصوى، واضطرت إلى التوقف عن التداول لمدة خمسة أيام متتالية. وكردّ فعل مباشر، فرض العديد من الدول المصدرة والمستوردة قيوداً صارمة على صادرات القمح والدقيق ومنتجاتهما، ما أدى إلى ارتفاع الأسعار مرة أخرى من خلال نظرية خلق الندرة المصطنعة.

وتولد ما يسمى "التأثير المضاعف" على الأسعار العالمية للقمح. في الأول من إبريل/نيسان الماضي، قال الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف على "تليغرام" إنّ الغذاء سلاح في وقت الحرب، وسنقوم بتزويد أصدقائنا فقط بالمنتجات الغذائية والزراعية. ما يؤكد أنّ بوتين يستخدم القمح كسلاح في الحرب ضد الغرب في أوكرانيا. ومن دون مبالغة، يمكن أن يسبب مجاعة غذائية حول العالم. فهو يسيطر حالياً على موارد الغذاء في روسيا وأوكرانيا.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

يتحكم في ثلث إمدادات القمح في العالم، ما يشكل حوالي 60 مليون طن تقريباً. في موعظته الأسبوعية في الأول من يونيو/حزيران الحالي، دعا بابا الفاتيكان زعيم الكاثوليك حول العالم، إلى رفع الحظر العاجل عن الموانئ الأوكرانية للسماح باستئناف صادرات القمح ودرء أزمة إنسانية عالمية، حتى أنه ترجّى بوتين وقال له: من فضلك لا تستخدم القمح كسلاح حرب! لكنّ بوتين الأرثوذكسي لم يسمع للبابا ولم يستأنف تصدير القمح. في يوم 5 إبريل/نيسان، ألمح بوتين إلى أنّ نقص الأسمدة أمر لا مفر منه، ويتعين على روسيا أن تراقب بعناية صادرات الأسمدة "إلى الدول المعادية لنا".

وهو دليل آخر على استخدام الغذاء كسلاح، وهو ما تأكد بعد أسبوع من تهديدات بوتين، حيث أعلن رئيس الوزراء الروسي وقف تصدير الأسمدة تماماً. منع بوتين تصدير الأسمدة يحرم المزارعين حول العالم من 50 بالمائة من إمدادات الأسمدة الأزوتية. غياب الأسمدة يؤدي إلى انخفاض إنتاج القمح وجميع المحاصيل، ما يقضي على فرص تعويض فجوة القمح المفتعلة في أوكرانيا.

لكن، هل يمكن لبوتين أن يخلق أزمة غذاء عالمية، لمواجهة الحصار الغربي ومساومة الولايات المتحدة في أوكرانيا؟! نعم، يمكن أن ينجح بوتين في إحداث أزمة قمح عالمية تهدد استقرار الشعوب والأنظمة السياسية حول العالم. وسيساعده في ذلك تراجع الإنتاج في دول إنتاج وتصدير القمح التقليدية بفعل موجة جفاف غير مسبوقة، والتي تضرب أقاليم إنتاج القمح من اتجاهاتها الأربعة، وهي ظاهرة نادرا ما تحدث في نفس الموسم الزراعي.

يمكن أن ينجح بوتين في إحداث أزمة قمح عالمية تهدد استقرار الشعوب والأنظمة السياسية حول العالم. وسيساعده في ذلك تراجع الإنتاج في دول إنتاج وتصدير القمح التقليدية

حيث تأكد انخفاض صادرات الولايات المتحدة من القمح بنحو 7 ملايين طن عن العام الماضي بسبب الجفاف. وكذلك في الأرجنتين والهند بمعدل 10 ملايين طن لكلّ دولة ولنفس السبب. وقريب من هذا الانخفاض في فرنسا، أكبر منتج ومصدر للقمح في الاتحاد الأوروبي. وهناك أنباء عن إمكانية أن تستورد الصين، أكبر منتج ومستهلك للقمح في العالم والمكتفية ذاتيا لعقود طويلة، عدة ملايين من أطنان القمح بسبب الجفاف أيضا، ما يشكل كارثة حقيقية على الدول المستوردة للقمح.

وفي ظل الذعر الذي ينتاب الدول الغنية القادرة على استيراد القمح بأسعار مرتفعة، فستكون تكلفة الخبز باهظة الثمن بالنسبة للشعوب الفقيرة في العالم العربي وأفريقيا وشرق آسيا، التي لا تستطيع منافسة الدول الغنية على شراء القمح من السوق الدولية المحدودة.

اقتصاد دولي
التحديثات الحية

ولا نغفل أنّ تضخم أسعار الغذاء هي استراتيجية استثمارية رابحة للشركات والحكومات. في أزمة الغذاء العالمية سنة 2008، رصد خبراء منظمة الأغذية والزراعة استقبال أسواق الحبوب العالمية قدرا ضئيلا من كمية الإنتاج العالمي من القمح، مع تقلب الأسعار بدرجة هائلة مع كل تغير ضئيل في حجم العرض والطلب الدولي على السلعة الاستراتيجية.

فبينما يتم تصدير 18 بالمائة فقط من الإنتاج العالمي من القمح، يتم استهلاك النسبة العظمى محلياً داخل الدول المنتجة. لذلك أعلنت لجنة تابعة لمجلس الشيوخ الأميركي بعد ارتفاع الأسعار إلى مستويات تاريخية في سنة 2009، أنّ دور القمح في الحضارة الحديثة أكثر مركزية وفاعلية من النفط.

وأكدوا على أنّ المخزون الاحتياطي الاستراتيجي من القمح هو أهم مكونات الأمن الغذائي، ومقياس الاستقرار الاجتماعي والسياسي والأمن القومي في الدولة. حالياً، وصلت نسبة الصادرات إلى 25 بالمائة من حجم الإنتاج. في سنة 2021 وصل الإنتاج العالمي من القمح إلى 780 مليون طن، تم تصدير 197 مليون طن منها. ورغم تحسن النسبة، تخطى السعر العالمي للقمح مستواه الأعلى في سنة 2007. في عام 2017، عندما أصبحت روسيا أكبر مصدر للقمح في العالم، طرح بوتين نفسه مورداً للحبوب بسعر منخفض بدلاً من الولايات المتحدة التي قامت بالدور لعدة عقود. في العام الماضي، وفرت روسيا 35 مليون طن للتجارة الدولية، وقدمت 42 بالمائة من احتياجات المنطقة العربية من القمح. وأمدت مصر بأكثر من نصف احتياجاتها، ومن أوكرانيا الثلث.

واشترى برنامج الغذاء العالمي، أكبر منظمة إنسانية على كوكب الأرض، نصف قمحها من هناك. وإذا كان ارتفاع الأسعار خبراً سيئاً لمن يستوردون القمح- فإنه مفيد للشركات الزراعية متعددة الجنسيات وتجار القمح وشركات الشحن الأربعة الكبرى المتحكمة في شحن 90 بالمائة من القمح، آرتشر دانيلز ميدلاند، وبونج، وكارجيل، ولويس دريفوس. وهي شركات ينتعش دخلها في الأزمات وتقلبات الأسعار وقد تدعمها. ارتفاع أسعار القمح مفيد أيضاً لبوتين في تمويل الحرب.

ومن المتوقع أن يصدر 40 مليون طن الموسم المقبل أو يستخدمها كسلاح سياسي. أن يجتمع تراجع الإنتاج في كلّ الدول المنتجة مع ارتفاع الأسعار العالمية في آن واحد إلى درجة تمكن من استخدام القمح كسلاح حرب عالمي التأثير، هو سيناريو نادر أو مستحيل، لكنّه حدث بالفعل. وكلما طالت مدة الحرب زاد الذعر على القمح، وزادت فرص حدوث اضطرابات الخبز في الدول الفقيرة، وجميعها حليف للولايات المتحدة، وكان موقف بوتين التفاوضي في أوكرانيا أفضل، فيتمكن من قضم شرقيها أو يلتهمها جميعاً.

المساهمون