قلق أوروبي من الابتلاع الصيني... وتوجس من "أنانية" أميركا

28 مارس 2023
فرنسا ودول أوروبية أخرى تميل نحو التوجه اقتصادياً صوب الصين (فرانس برس)
+ الخط -

يتصاعد القلق الأوروبي من انكشاف الجبهة الاقتصادية للقارة العجوز، وسط صراع تجاري شرس يدور بين الولايات المتحدة والصين، فالاعتماد الكبير لأوروبا على المواد الخام والكثير من الصناعات الصينية لاسيما المتعلقة بالتكنولوجيا الخضراء يضع الأوروبيين في مأزق الحياد أمام هذا الصراع مستقبلاً، بعدما ظلت مصالحهم لعقود ماضية مع الحليف الأميركي، لكن المشهد تبدل كثيراً في الأعوام الأخيرة، مع اتباع واشنطن سياسات تسببت في انكشاف ظهر أوروبا في العديد من الأزمات.

وعبر أكثر من زعيم أوروبي خلال الأيام الماضية، في أعقاب قمة بروكسل بين القادة في الاتحاد الأوروبي يومي الخميس والجمعة الماضيين، عن رغبة في السفر سريعاً نحو بكين.

من بين هؤلاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي يعاني على جبهة داخلية مشتعلة منذ أسابيع، ورئيس الحكومة الإسباني الاشتراكي، بيدرو سانشيز، إلى جانب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، وغيرهم من رؤساء حكومات أوروبية، في أوقات تبدو فيها الحاجة إلى الحفاظ على المصالح الاقتصادية والصناعية على رأس جدول الأعمال.

فرغم القلق الأوروبي السياسي من زيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ، إلى موسكو مؤخراً، إلا أن مخاوف أعمق تتشكل على مستقبل قارتهم الصناعي والاقتصادي في حال انتقل التنافس الصيني ـ الأميركي نحو حرب تجارية واقتصادية مفتوحة مستقبلاً، بما يضر مصالحهم التجارية والصناعية.

ويدور هذه الأيام سجال عميق بين الأوروبيين عن مستوى اعتمادهم المتزايد على التكنولوجيا والمواد الخام الصينية، ما يضعهم في مواقف متعارضة على المستوى الداخلي، بين مطالب بتشديد المواقف ومواقف أكثر وسطية.

وإذا كانت ألمانيا، البلد الذي يعتبر قيادياً على المستوى الصناعي في الاتحاد الأوروبي مع فرنسا، تبدو حائرة في اختيار استراتيجية واضحة لعلاقتها مع بكين، فإن بقية الأوروبيين ينظرون مضطرين إلى الصين على أنها بلد حيوي على مستوى الاستراتيجيات الصناعية والتجارية في القارة.

مشاريع أوروبا المستقبلية في خطر

في قمة بروكسل نهاية الأسبوع الماضي، جرت مناقشات حول التحديات التي يفرضها النظام العالمي المتوتر على قارتهم. ويعتقد كبار الباحثين في مركز أبحاث الاقتصاد الأوروبي "بروغل"، من خلال دراسة ترصد العلاقة التجارية بين الصين والاتحاد الأوروبي، أن القارة بحاجة إلى سياسات تجارية أخرى مع الصين.

وقدم المركز تحليلاً باستخدام الأرقام منذ عام 2001 وحتى 2016 حول أحجام الاستيراد من الصين. فأوروبا باتت تعتمد على نحو 6 آلاف و887 منتجاً صينياً للحفاظ على إنتاجها وصناعاتها، مع ملاحظة أن الاستيراد من الدول الأخرى بات منخفضا للغاية، وخصوصا للمواد الخام الأولية الداخلة في صناعة التكنولوجيا الخضراء وعالية التقنية في صناعات كثيرة أخرى.

وتشير البيانات الصادرة عن هيئة الطاقة في المفوضية الأوروبية، إلى أن الاتحاد الأوروبي ليس بمقدوره إنتاج أكثر من 9% من المواد الخام التي يحتاجها في صناعاته. بل إن دول أوروبا تستورد 97% من حاجتها إلى المنغنيز من بكين، وتستورد أيضا جزءاً كبيراً من حاجتها إلى خام الكوبالت التي تدخل في صناعة البطاريات من الكونغو الديمقراطية، بنسبة 63%، ونحو 60% منها تقوم بمعالجته في المصانع الصينية.

صحيح أن دول الاتحاد الأوروبي لديها مشاريع محددة للعام 2030 بحيث تقوم بنفسها بإنتاج ما لا يقل عن 10% من حاجتها إلى المواد الخام الرئيسية، بتوسيع العمل على المناجم، وأن عليها معالجة ما لا يقل عن 40%من تلك المواد محلياً، بدل إرسالها إلى الصين، ومساع لإعادة تدوير واستخدام 15% من الخام المستخدم، إلا أن مخططات أوروبا ليست كافية لتقليل الاعتماد على بكين، ولا حتى تحقيق ما تطمح إليه بحلول ذلك العام.

ودفع هذا دول الاتحاد الأوروبي إلى البحث عن مصادر أخرى للمواد الخام من خارج الصين بنسبة طموحة تصل إلى 65%، مع تعثر الكثير من المشاريع على ضوء الأزمات المالية والتجارية المتواصلة منذ جائحة كورونا، واندلاع الحرب في أوكرانيا ونشوء أزمتي طاقة وتضخم متواصلتين.

واشنطن غير راضية

في ظل تصورات مستقبلية للعلاقة الصينية ـ الأميركية، تشير إلى أنها ذاهبة نحو التأزم، وتفرض نوعاً من الاصطفاف بين القطبين العملاقين، تأتي المسارعة الأوروبية نحو لقاءات مع بكين، وحماسة لاتفاقيات تجارية جديدة، كما عبرت رئيسة المفوضية الأوروبية فون ديرلاين في معرض تبريرها لجولتها الصينية. بينما لا يمر الأمر بهدوء بالنسبة لواشنطن، إذ باتت التحركات الأوروبية تستفز الحليف الغربي، الذي حذر بعيد قمة بروكسل من "توهج" علاقة الصين بأوروبا.

يريد الأميركيون أوروبا في صفهم، دون تردد، حال اندلاع المواجهة التجارية مع الصين، لكن الأوروبيين يخشون المتاعب، خاصة في ظل معاناتهم من أزمة الطاقة بعد الغزو الروسي لأوكرانيا وما وصفه محللون بـ"الأنانية الأميركية" في تعويض الأوروبيين عن الغاز الروسي على سبيل المثال.

وتحت السطح ثمة مشكلة ثقة بين الحليفين عبر الأطلسي، وخصوصا بعد زيارة مستشار ألمانيا أولاف شولتز إلى بكين في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وبدون تنسيق مع زملائه الأوروبيين والأميركيين. وزاد غضب واشنطن بعد مسارعة برلين مؤخراً نحو إبرام عقد بقيمة نحو 64 مليون يورو بين دويتشه بان (سكك الحديد الألمانية)، مع شركة تستخدم تقنيات هواوي الصينية لبناء بنية تحتية رقمية.

وتخشى واشنطن أن تسمح معدات الشركة الصينية بتوسيع قدرة بكين على التجسس، فضلا عن أن نحو 3% من العمالة الألمانية ترتبط بعلاقة مع الصين على مستوى الصناعة.

كما يتزايد التوجس الأوروبي حيال الحليف الأميركي في ظل الوضع السياسي الداخلي بالولايات المتحدة. ففي تصريحات حاكم فلوريدا الجمهوري، رون دي سانتيس والمتوقع منافسته دونالد ترامب على الرئاسة، عن الحرب في أوكرانيا، واعتبارها نزاعا حدوديا وإقليميا، وتلميحا إلى المسؤولية الأوروبية في تحمل ما يجري وعدم تقديم حماية أوروبية للقارة، يجعل أوروبا غير متيقنة من سياسة الحليف الأميركي حال تغير لون الحزب الحاكم للبيت الأبيض.

متغيرات تفرض نفسها على أوروبا

طرأت متغيرات كثيرة، لاسيما منذ ظهور جائحة كورونا ومشاكل سلاسل التوريد العالمي وانكشاف ظهر القارة الأوروبية في عدم الاكتفاء لناحية مكافحة الأوبئة دون الاعتماد على بكين. كما تفرض الحرب الأوكرانية، ومحاولة الصين الظهور كلاعب دولي على تخوم أوروبا بعيد قمة الرئيسين الصيني والروسي أخيراً في موسكو.

ويرى باحثون غربيون ومنهم أندرو ميتشا، كبير باحثي مركز جورج سي مارشال في ألمانيا، أن بكين تتقن لعبة "دق إسفين بين أميركا وأوروبا"، في استغلال اختلال الميزان التجاري لمصلحتها. بعض هؤلاء الباحثين لا يساورهم شك في أن القارة الأوروبية، بالإضافة إلى اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية بحاجة لاستكشاف أن ما يجري في العلاقات "يقوم على عقلية الحرب الباردة".

وقدمت رئيسة الحكومة الدنماركية، ميتا فريدركسن، بعيد قمة بروكسل، صورة موجزة عن مشكلة أوروبا والمعضلة المستقبلية، موضحة في تصريحات لوسائل الإعلام المحلية أن " هناك انعكاسا على معظم القادة الأوروبيين اليوم بأن العالم قد تغير وأن خطورة الاعتماد على الغاز الروسي يمكن أن يكون نفس الحال بالاعتماد على التقنيات والمواد الخام من الصين".

وأضافت أن الأوروبيين يؤكدون أنه لا رجعة إلى ربط قارتهم بالغاز الروسي، وهم في سبيل ذلك يبحثون عن مصادر أخرى محلية وخارجية من دول أخرى، وبنفس القدر والتحديات ستكون مهمة الاعتماد على مصادر غير صينية في المواد الخام والصناعات الحيوية، وهي مهمة ليست سهلة ولا يمكن تحقيقها بالعلاقة الفردية مع بكين.

لكن أوروبا تخشى أنها ستكون الخاسر الأكبر في ظل الصراع بين واشنطن وبكين، فخلال الأسبوع الماضي أطلقت المفوضية الأوروبية حزمة صناعية كبيرة، تهدف إلى تجهيز الاتحاد الأوروبي ليكون قادراً على فعل المزيد بمفرده على نطاق الاستثمار في التحول الأخضر.

لكن صناعات التكنولوجيا الخضراء، التي تعتمد على طاقة الرياح والطاقة الشمسية والهيدروجين، تصطدم بمشكلة حقيقية، فمعظم الخلايا المستخدمة في الطاقة الشمسية في أوروبا هي من مصدر صيني، وبالتالي فإن البدائل تبدو صعبة، خاصة أن الحليف الأميركي يركز جهوده على الاستثمار الداخلي لتلك التكنولوجيا، لتجسير الفجوة مع الصين التي قطعت شوطاً كبيراً في استثمارها في هذا المجال.

وثمة معركة أخرى تلوح في الأفق على مستوى الرقائق الدقيقة، إذا ما اضطرت أوروبا إلى عقوبات تجارية واقتصادية غربية بحق الصين، حال دخلت على خط الحرب في أوكرانيا. ويعتقد متخصصون في الاقتصاد أن أوروبا "كانت ساذجة للغاية في إيمانها بالعولمة وبأن قوى السوق تنظم كل شيء"، كما صرح بيتر ثايسن، رئيس التجارة العالمية والاستثمار في مجمع الصناعات الدنماركية (يضم أغلب الشركات) لصحيفة "بوليتيكن" في كوبنهاغن.

بينما قالت مفوضة المنافسة في الاتحاد الأوروبي، مارغيتا فيتسرآي: "لم نكن ساذجين للغاية، بل كنا جشعين للغاية". ويعتقد ثايسن أن أوروبا اليوم "أكثر عرضة للخطر، وسيكون علينا الرد إذا قامت الصين باستخدام المواد الخام لابتزازنا".

المساهمون