المتداول بين العامة، حتى من بعض من يدعي التخصص بالشأن التركي، أن قيود المنع والتقييد التي فرضتها اتفاقية لوزان على تركيا ستنتهي العام الجاري، أو بصيغة أدق، انتهت قبل ثلاثة أيام، وسيبدأ التسارع بالنمو والحريات والتطوّر بزوال القيود التي أسرت تركيا ومنعتها من استثمار ثرواتها، الباطنية والبحرية، مستندين بتلك النبوءات إلى أن عمر الاتفاقية التي وقعت في 24 يوليو/تموز 1923 مئة عام فقط، وأن تركيا وقعتها صاغرة ومرغمة لأنها الخاسرة وجنحت لإملاءات الحلفاء.
يمكننا أولاً اعتبار كل تلك الطروحات عارية من الصحة، وأنها تخيّلات تنامت مع الزمن، إذ، وبحسب الاتفاقية التي وقعتها تركيا "المجلس الوطني الكبير" مع الحلفاء المنتصرين بالحرب العالمية الأولى "بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، اليابان، رومانيا، صربيا، كرواتيا وسلوفينيا" لا تنص على إطار زمني، أي تنتهي بعد مئة سنة، كما لا يوجد فيها أي نص أو مادة يحرّم على تركيا استخراج النفط أو الغاز، كما لم تأت الاتفاقية على مجانية مرور السفن التجارية من مضيق البوسفور، كما هو متداول.
ودحض تلك الأقاويل لا يحتاج دليلاً أو عناء الاثبات، إذ إن تركيا تستخرج النفط منذ سنوات واقترب إنتاجها اليومي من مئة ألف برميل، عدا تمددها باستخراج الغاز من البر إلى البحر، كما تساهم عائدات مرور السفن من مضيق البوسفور في موارد تركيا، بل ولمن يهمه الأمر، تم رفع الرسوم على السفن التجارية العابرة المضيق بنسبة 8% ابتداء من الشهر الجاري.
كما وللتاريخ، لم توقع تركيا اتفاقية لوزان وهي بحالة انكسار أو ضعف، كما يُروّج، بل جاءت الاتفاقية بعد ما يصفه الأتراك بانتصارات الجيش بقيادة مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك على القوات اليونانية التي كانت تحتل أجزاء من البلاد.
إذ ثمة خلط هنا، بين اتفاقية لوزان واتفاقية سيفر التي وقعت في أغسطس/آب 1920 إثر خسارة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، والتي قضت بفصل الولايات العربية عن الامبراطورية العثمانية، واقتطعت جزرا وأراضي من الإمبراطورية، ووضعت، هنا الخلط، مضيقي البوسفور والدردنيل تحت الإدارة الدولية.
لكن تلك الشروط كانت سبب رفض الحركة القومية التركية بزعامة أتاتورك بعد أن تولت الحكم في تركيا في 29 أكتوبر/تشرين الأول عام 1923، واعتبرت جميع بنودها ظلما وإجحافا للدولة التركية، ليصار إلى هندسة وتوقيع اتفاقية لوزان.
ثمة مغالطات تعلّق على مشجب اتفاقية لوزان، كفرض علمانية الدولة أو حتى مصادرة أموال الدولة العثمانية، لكن من يقلّب صفحات مواد لوزان المئة والثلاثة والأربعين ووثائقها السبع عشرة "اتفاقية، ميثاق، تصريح وملحق" سيجد ترتيب مصالحة بين الدول الموقعة وتحديد حدود تركيا وتأسيس علاقات وفق القانون الدولي، مع الإشارة إلى مواد حماية الأقليات بتركيا مقابل حماية المسلمين باليونان، ولن يجد أي ذكر لكل ما يشاع عن القيود التي فرضها الحلفاء وتحررت تركيا منها قبل أيام.
قصارى القول: الأرجح أن المغالطات المتداولة حول قيود اتفاقية لوزان وانعتاق تركيا أتت جراء تزامن مئوية الاتفاق مع مئوية تأسيس الجمهورية الأولى على يد مصطفى كمال أتاتورك، فتركيا، على الأقل منذ وصول حزب "العدالة والتنمية" عام 2002 إلى السلطة، وهي تعد بالانطلاقة الكبرى وتأسيس الجمهورية الثانية وبلوغ نادي العشرة الكبار عام 2023.
بل سرت مقولة "قرن تركيا" التي أطلقها الرئيس أردوغان لما بعد مئوية تأسيس الجمهورية، بأهداف ورؤى جديدة، لخصها خلال أحد خطاباته بـ"قرن استبدال سياسة الهوية بسياسة الوحدة، والاستقطاب بالتكامل، والإنكار بالاحتضان، والهيمنة بالحرية، والكره بالمحبة" من دون أن يغفل الجانب الاقتصادي ببلوغ التجارة الخارجية تريليون دولار وعائدات السياحة 100 مليار، بعد أن تتحول بلاده إلى إحدى أكبر الدول الصناعية والتجارية في العالم.
نهاية القول: ربما بدأ عدّ جديد بتركيا منذ عام 2023، وإن يصعب وصفه بالعد التصاعدي لبلوغ تركيا نادي الكبار، أو التنازلي بواقع ملامح الانفجار على غير صعيد ومجال، إذ إن عودة تركيا لـ"صفر مشاكل" ومحاولة تصويب العلاقات وإعادة فتح علاقات جديدة مع المشرق العربي والغرب الأوروبي، تحمل جملة من الاحتمالات المتناقضة، ربما أخطر ما فيها من مطبات، ما غفلت عنه "لوزان" وربما تعيد فتحه تركيا، وهي الحدود البرية مع الجوار "وموصل العراق أولاً" أو البحرية مع اليونان.
ليبقى تقبّل الغرب لقرن تركيا وموقعها، الاقتصاديين والعسكريين الجديديّن، الاختبار الأهم للحلم بالجمهورية الثانية والانعتاق من تبعات سيفر وما كان يرميه البعض على لوزان.