أعلن بنك الاحتياط الفيدرالي، الأسبوع الماضي، نيته العمل على إنهاء برامج التيسير الكمي أسرع مما كان مخططاً من قبل، ومن ثم البدء برفع معدلات الفائدة على أمواله، ربما ثلاث مرات، قبل نهاية العام القادم، للحد من ارتفاع معدل التضخم الأميركي الذي وصل إلى أعلى مستوياته في ما يقرب من أربعة عقود. وبينما يقوم البنك الفيدرالي بما يقوم به لمساعدة الاقتصاد الأميركي على تحقيق أهدافه، فيما يخص معدلات النمو الحقيقية والتضخم والتوظيف في الولايات المتحدة، لا يبدو أن السوق المصرية ستكون بمعزل عما يحدث في واشنطن، على بعد نحو عشرة آلاف ميل منها.
واستضافت شبكة بلومبيرغ، الأسبوع الماضي، كينيث روجوف، أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة في جامعة هارفرد الأميركية، لسؤاله عن رؤيته لما يمكن أن تسببه خطوات البنك الفيدرالي المتوقعة خلال الفترة القادمة من مشكلات للاقتصادات الناشئة والنامية، والتي يمثل رفع معدلات الفائدة الأميركية تهديداً كبيراً بالنسبة لها، حسب توقّع بعض المحللين.
أكد روجوف أن الأمر شديد الحساسية بالنسبة لتلك الدول "حتى في حالة توخّي البنك الفيدرالي الحذر في رفع معدلات الفائدة"، مؤكداً أن بعض تلك الدول ستجد صعوبات في الاقتراض من الأسواق عند رفع الفائدة الأميركية، ومذكراً بالأرجنتين ولبنان اللذين وقعا في فخ الإفلاس خلال الفترة الماضية، قبل أن يبدأ التنفيذ الفعلي لتحركات البنك الفيدرالي.
وقال الاقتصادي، الذي كان لسنوات من أبطال العالم في لعبة الشطرنج، إن كلاً من مصر وباكستان وغانا ستكون معرّضة لمخاطر شديدة عند رفع البنك الفيدرالي الفائدة على أمواله، بسبب ارتفاع الدين الخارجي في تلك الدول، وصعوبة وصولها في كثير من الأحيان إلى أسواق السندات للاقتراض، بالإضافة إلى ارتفاع معدل التضخم فيها.
وأشار روجوف إلى محدودية البدائل المتاحة أمام تلك الدول عند رفع معدلات الفائدة الأميركية، مؤكداً أن صندوق النقد الدولي "تأخر جداً في التعامل مع الموقف في الدول الناشئة والنامية".
لم يمثل ما قاله روجوف مفاجأة للكثيرين من المتابعين للشأن المصري، الذين رأوا الدين الخارجي ينمو أسرع من أي مؤشر اقتصادي آخر في مصر، وصولاً إلى ما يقرب من 140 مليار دولار، بعد أن كان أقل من 37 مليار دولار قبل عشر سنوات، وبنسبة ارتفاع تقترب من 280%.
لم تتوقف الحكومة المصرية عن الاقتراض من الخارج خلال السنوات الأخيرة، وكانت العوامل الأساسية المسببة لاقتراض المليارات هي سد العجز الدائم في ميزان المدفوعات، وسداد مدفوعات القروض التي تُستحق، ثم في السنوات الأخيرة المساعدة على تثبيت سعر الدولار مقابل الجنيه، رغم زيادة الطلب عليه بصورة كبيرة مقارنة بالمعروض منه.
ورغم وجود تحذيرات من محللين اقتصاديين تؤكد استحالة استمرار هذا التوجه، وتنذر بحدوث أزمات كبيرة عند تراجع قدرتها على الاقتراض، استمرت الحكومة المصرية في بيع السندات بأنواعها المختلفة (يوروبوند، خضراء، صكوك،... إلخ)، وتجديد الودائع الخليجية عند استحقاقها، كما الاقتراض من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والبنك الأوروبي، والبنك الإسلامي للتنمية، والبنك الأفريقي، كلما سنحت الفرصة.
وفي حين يدفع البعض بنمو الاقتصاد المصري بصورة تسمح له بالمزيد من الاقتراض دون تجاوز الحدود الآمنة، تسقط الحجة تماماً عند مقارنة معدل النمو السنوي للدين المصري الخارجي، والذي تجاوز 15% في كل سنة من السنوات السبع الأخيرة، ومعدل نمو الاقتصاد المصري، الذي لم يتجاوز 6.5% في أي منها، ناهيك عن ضعف المكون الدولاري، أو المحقق بأي عملة أجنبية، ضمن مكونات الناتج المحلي الإجمالي في مصر، وهو الأجدر بالمتابعة عند محاولة استكشاف قدرة الاقتصاد المصري على سداد ما يقترضه بالعملة الأجنبية.
لا يجب النظر إلى الأزمة القادمة باعتبارها مجرد ظرف صعب سيتم التعامل معه كما حدث مع الأزمات السابقة، سواء التي تعرضت فيها العملة المصرية لضغوط، أو التي تزايد فيها عجز الموازنة، أو تأثرت فيها موارد البلاد من العملة الأجنبية بسبب تراجع إيرادات قناة السويس أو تباطؤ السياحة.
فالفترة القادمة ربما تشهد كل تلك الأحداث دفعة واحدة، ولن يكون الحل في رفع معدلات الفائدة على الجنيه المصري 200 أو 300 نقطة أساس، أو حتى تقبل الاقتراض الدولاري بتكلفة أعلى قليلاً مما نتحمله حالياً. كما أن التكلفة الباهظة التي تحمّلها المواطن المصري مع تعويم الجنيه، ما زالت أغلب آثارها باقية، وما اندثر منها ما زال عالقا في الذاكرة.
لا يوجد حل إذاً أفضل من إعادة النظر في سياسة الاقتراض برمتها، التي يدعمها صندوق النقد الدولي بمنتهى القوة، باعتباره وكيل المقرضين في العالم، والمروج الأهم لسياسات الاستدانة في الدول النامية والفقيرة، في محاولة للحد من الاحتياج لتلك القروض، والابتعاد عما تمثله من تهديد لصحة الاقتصاد، وقوة العملة المحلية، ومن ثم مستوى معيشة المواطنين.
لا يوجد ما يشين في فرض بعض الدول قيوداً على الاستيراد إذا اقتضت الحاجة، ولا يوجد ما يمنع فرض تعرفات جمركية على استيراد بعض السلع التي تستهلك موارد الدولة من النقد الأجنبي، وتجبر الحكومة على زيادة الديون الخارجية، ويمثل استيرادها تهديداً للصناعة المحلية، ويتسبب في تعطل ملايين المواطنين.
ولهذه الأسباب تحديداً، اتجهت العديد من الدول الكبرى، وفي طليعتها الولايات المتحدة، إلى فرض التعرفات على الواردات، حين اعتبر رئيسها السابق دونالد ترامب أن استمرار الاعتماد على الصين في استيراد الكثير من السلع يهدد خلق الوظائف في أميركا، ويزيد العجز التجاري لديهم، ويتسبب في تراجع قيمة عملتهم.
القرارات الشجاعة ليست بفرض الضرائب على المواطنين ورفع الدعم عن الوقود ورغيف العيش، وإنما القرارات الشجاعة هي التي تمنع استيراد ما يمكن استهلاكه محلياً، وتفرض تعرفات جمركية قاسية على السلع "الاستفزازية" التي ترد إلى البلاد، ثم تشجع الاستثمار في التصنيع المحلي، حمايةً للعملة المحلية، ودعماً لخلق الوظائف، وإيقاف طوفان الاستدانة من الخارج.