كشف تقرير ديوان المحاسبة عن الإنفاق العام لسنة 2019 في ليبيا عن حجم الفساد المستشري في القطاع الاقتصادي، ما يبرز جملة من التحديات الكبيرة أمام السلطة التنفيذية الجديدة، على رأسها تحدي المسار الاقتصادي كأحد مسارات حل الأزمة في البلاد، بعد إنجاز الاستحقاق في المسار السياسي، ومنح مجلس النواب الثقة لحكومة الوحدة الوطنية.
وعلى الرغم من لهجة التفاؤل التي حملها التقرير، الذي نشره ديوان المحاسبة (أعلى جهة رقابية في ليبيا)، أمس الخميس، بتحقيق فائض في الميزانية للعام 2019 بلغ نحو 13 مليار دينار ليبي، إلا أن التفاصيل التي تضمنها التقرير توضح حجم العراقيل التي تنتظر السلطة الجديدة.
وأوضح التقرير أن الموارد السيادية في العام ذاته بلغت 59 مليار دينار، فيما بلغ الإنفاق العام 46 مليار دينار، لقاء 7.8 مليارات دينار فائض عام 2018، و10.7 مليارات دينار فائض 2017، لكنه، في الوقت ذاته، أشار إلى أن الموارد السياسية "عانت انحرافا سلبيا"، عازيا السبب إلى عدة عوامل، منها عدم الدقة في تحديد رسوم بيع النقد الأجنبي وموارد النفط.
وحدد الديوان الانحراف في "التحصيل والتقدير"، موازنة العام 2019، جاء بنسبة 59%، موضحا أن إيرادات هذا العام جاءت مقسمة بين 31 مليار دينار، منها 23 مليار دينار من إيرادات بيع النقد الأجنبي، و31 مليار ايرادات نفطية، إضافة إلى ملياري دينار "جاءت من الموارد السيادية"، من دون أن يحددها، مشيرا إلى أن حجم الدين العام لسنة 2019 بلغ 57 مليار دينار، بعد أن كان 62 مليارا للعام 2018.
عجز مالي رغم توفير السيولة
وقد أشار التقرير إلى أنه رغم تسييل البنك المركزي للحكومة الموازية، شرق البلاد، 11 مليار دينار، إلا أن الحساب الختامي للدولة أظهر عجزا لدى الحكومة، حيث جاء إجمالي مصروفات الحكومة بأكثر من 46 مليار دينار، منها 24 مليار للمرتبات، وأكثر من 7 مليارات لدعم المحروقات والأدوية والأغذية، و4 مليارات في باب التنمية، إضافة إلى 11 مليارا كترتيبات استثنائية خارج الموازنة العامة للحكومة.
في جانب آخر، أكد التقرير أن المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق أصدر قرارات استثنائية، خلال العام 2019، بشأن عدد من الترتيبات المالية لسد العجز الذي تعانيه حكومة الوفاق بالاستفادة من مما تبقى من إيرادات النقد الأجنبي لسنة 2018، مؤكدا أن الرئاسي لم تكن قراراته هذه متجاوبة مع "الوضع الاستثنائي"، من خلال توسعه في إصدار عدة قرارات، من بينها مناقلات مالية استعمل فيها الفائض في بند المرتبات الأساسية لتغطية بنود أخرى.
وكشف التقرير عن العديد من المخالفات، بسبب قرارات المجلس الرئاسي، منها مرتبات لأشخاص انتهت علاقاتهم بالمجلس الرئاسي، ومصاريف مالية خاصة صرفها المجلس الرئاسي لمستشاره السياسي وعائلته، مقابل إصدار تذاكر سفر وإقامة بالفنادق بناءً على تعليمات مباشرة من رئيس المجلس، فايز السراج، من دون إصدار قرارات، بلغت 1.492 مليون دينار، وتعليمات أخرى من السراج تتعلق بصرف علاوة سفر ومبيت لأشخاص يتبعون جهات أخرى ذات ميزانيات مستقلة ولا تربطهم علاقة وظيفية بالمجلس الرئاسي، من بينها 1.127 مليون دينار لأحد الفنادق بالعاصمة طرابلس مقابل توفير وجبات إعاشة لأفراد الحراسة مكلفين بمهام خاصة.
تضخم الكادر الوظيفي
وخلال رصده لجملة من المخالفات، أشار التقرير إلى تضخم الكادر الوظيفي للدولة خلال العام 2019، حيث بلغت الزيادة في الموظفين بالقطاع العام قرابة 259 ألف موظف.
وردا على الجدل الحاصل في وسائل الإعلام حول تأخر إصدار الديوان للتقرير، رغم انتهاء العام التالي، ومناسبة توقيته بوصول الحكومة الجديدة للسلطة، برر رئيس الديوان، خالد شكشك، ذلك بـ"الظروف غير العادية التي مرت بها ليبيا من حروب وأزمة سياسية، إضافة إلى جائحة كورونا".
وأكد شكشك، في تصريحات صحافية، أن التقرير جزء مهم من عمل الديوان، ونشره يهدف لــ"إطلاع المجتمع على تصرفات الموكل لهم التصرف في الأموال والممتلكات العامة".
وقال: "أتمنى أن يكون هذا التقرير عوناً لكل من أراد البناء وإدارة للمساءلة والمحاسبة لكل من أراد العبث والهدر بموارد الوطن، كما أتمنى من وسائل الإعلام استخدام هذا التقرير للرفع من مستوى الوعي وتحقيق الشفافية وعدم استخدامه للإثارة الإعلامية أو استخدامه لأغراض غير مهنية".
مجرّد تبريرات
وبحسب أستاذ الاقتصاد بالجامعات الليبية، عبدالسلام زيدان، فإن تبريرات رئيس الديوان "غير مقنعة، فالظروف والأوضاع لم تتغير ولم تمنع الديوان من نشر تقاريره للأعوام الفائتة في موعدها ولو بتأخير نسبي"، معتبرا أن لها "خلفيات تتعلق بمواقف قادة السلطة التي تستعد للتنحي، وتصفيات حسابات شخصية".
وعلق زيدان متحدثا لــ"العربي الجديد" بالقول: "أعتقد أن أهم التحديات في الاتجاه الاقتصادي يرتبط بتحديد شاغلي المؤسسات السيادية بعد الاتفاق على توزيعها بالمحاصصة في اتفاق بوزنيقة المغربية قبل أشهر لتحييد الشخصيات المتنفذة في مفاصل هذه المؤسسات، لا سيما الاقتصادية منها، كخطوة أولى"، مشيرا إلى أن تقرير ديوان المحاسبة "يعكس حالة التنافس بين أقطاب الصراع للبقاء في المشهد".
إجراءات لتلافي آثار الفساد
وعلى الرغم من حجم الفساد الكبير الذي كشفه التقرير، إلا أن زيدان يقترح جملة من الإجراءات التي يمكن لرئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة اتباعها لتلافي مخاطر وآثار الفساد، و"لتلافي ضياع الوقت بسبب عمر الحكومة القصير".
ومن تلك الإجراءات، يقول زيدان، تشجيع الاستثمار المحلي لـ"امتصاص الفائض المالي لدى المستهلك للتوفير بدلا من الإجراءات السلبية التي اعتمدتها حكومة الوفاق بالاعتماد على إيرادات بيع النقد الأجنبي، في وقت لم تضع ضابطا محددا لبيع النقد، وهو ما يتيح لها عدم التوسع في الميزانية العامة التي ستقترحها".
ويضيف: "يجب على الدبيبة الوعي بضرورة تنظيم عملية الاستهلاك لمنع التضخم، فالسوق العالمية تعيش حالة اضطراب حتى في تحديد أسعار المواد الأساسية"، ولذا يقترح زيدان أن تشجع الحكومة مشاريع اقتصادية قصيرة المدى يمكن من خلالها تقليل الاعتماد على موارد النفط، تزامنا مع خطط قصيرة متوسطة المدى لإصلاح القطاع المصرفي.
وعلى الرغم من مقترحاته، إلا أن الأكاديمي الليبي يرى أن "الدبيبة رجل أعمال ويمكنه أن يتكهن بمثل هذه الإجراءات، لكن العقبة الرئيسية أمامه تبدو في مجلس النواب الذي سيحتاجه لاعتماد العديد من قراراته وخطواته، وكذلك السلطة القضائية كيد رادعة"، لكن كلا السلطتين، بحسب زيدان، "مهددة بعودة الانقسامات والخلافات بينها".
والأحد الماضي، أعلن نائب رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، أحمد معيتيق، إسدال الستار رسميا عن حقبة الانقسام الماضي بين وزارتي المالية في شرق البلاد وغربها، مشيرا إلى أن ذلك يعد اللبنة الأولى في طريق توحيد مؤسسات الدولة.
وفي فبراير/ شباط الماضي، أعلنت وزارة المالية بحكومة الوفاق عن اعتماد اللجنة الفنية المشتركة، المؤلفة من مسؤولين ماليين من الحكومة الشرعية والحكومة الموازية، شرق البلاد، للميزانية العامة الموحدة، بعد زيارة أجراها معيتيق بصحبة وزير المالية بحكومة الوفاق فرج بومطاري لمدينة البيضاء، شرق البلاد، لــ"اعتماد نتائج أعمال اللجنة الفنية الموحدة ووضع آليات تنفيذها".
وفي سياق منفصل أعلن وزير المالية بحكومة الوفاق عن تحديد قيمة الدولار الجمركي لــ"أغراض احتساب الضريبة الجمركية المستحقة بواقع 2.12 دينار لكل دولار واحد".
وفيما أوضح الوزير أن قراره اعتمد على دراسة علمية أعدها خبراء مختصون في العلوم الاقتصادية، لفت إلى أن وزارته أنشأت غرفة داخل مصلحة الجمارك للعمل على تحديث معدل قيمة الدولار الجمركي وفقا للمتغيرات الاقتصادية.
وأوضح أن هذه الخطوة تأتي في إطار المساهمة لــ"إحداث استقرار نسبي في المستوى العام للأسعار، وكذلك لضمان دخول أكبر عدد من المتعاملين في الاقتصاد الوطني إلى المنظومة القانونية وتأسيس قاعدة بيانات عن البضائع المستوردة كما ونوعا، لتكون رادفا لرسم سياسة تجارية ناجعة"، مشيرا إلى أنه قرار "مؤقت" يخضع للتحديث المستمر، وفقا للمتغيرات الاقتصادية حتى تحديد نهائي لسعر صرف الدينار الليبي مقابل العملات الأجنبية.