في قطاع غزة، تبدو الصورة سوداوية على المستوى المعيشي، وأصعب مما نتخيل على المستوى الإنساني، قطاع خال من مقومات الحياة الأساسية وفي مقدمتها الغذاء والمياه والكهرباء والأدوية.
شعب يواجه احتلالاً إجرامياً يمارس ضده أبشع أنواع الحروب والمجازر الاقتصادية، يتعرض لحرب تجويع وإبادة جماعية وتهجير، وقبله قتل الأرواح وفي المقدمة الأطفال والنساء وكبار السن.
في داخل القطاع المحاصر إسرائيليا منذ سنوات طويلة، تبدو الصورة كالتالي: مئات الآلاف من الأسر لا تجد لقمة خبز حاف تسد بها جوع أولادها الصغار، أسر تواجه صعوبات شديدة وأزمة متفاقمة في الحصول على رغيف الخبز من المحال التجارية والباعة في ظل شح شديد في الدقيق والحبوب.
مئات الآلاف من الأسر لا تجد لقمة خبز حاف تسد بها جوع أولادها الصغار، وأخرى تواجه صعوبات شديدة في الحصول على رغيف الخبز
مرضى لا يجدون أدوية، ومستشفيات تتعرض لهجمات صاروخية، وأخرى تختفي منها أكياس الدم وقطع الغيار وعاجزة عن إجراء عمليات جراحية مع نفاد الدواء وانقطاع الكهرباء وقتل الأطباء والممرضات والمسعفين.
أسواق ومحال تجزئة تغلق أبوابها بسبب نفاد المعروض من السلع الاستهلاكية، بل ونفاد المخزون من السلع الغذائية والتموينية، معظم المخابز تغلق أبوابها، وتتوقف عن العمل بشكلٍ كلي بسبب عدم توفر المواد الخام، من الطحين والوقود، ونفادها بشكلٍ تام.
وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" باتت عاجزة عن توفير كميات أو مساعدات غذائية للاجئين.
انقطاع المياه والتيار الكهربائي والإنترنت، اختفاء الدقيق والأرز والسكر من المنازل وعدم وجود بدائل متاحة أمام آلاف الأسر للحصول على طعام وسط تصاعد العدوان الإسرائيلي. المطاحن متوقفة عن العمل بسبب عدم توفر القمح والذرة والشعير والكهرباء.
ببساطة، باتت غزة على مشارف موجة جوع قاتلة وواسعة النطاق مع إعلان دولة الاحتلال قطع الإمدادات الأساسية من كهرباء وماء ووقود ومواد غذائية عن القطاع، وإغلاق جيش الاحتلال المعابر الحدودية التي كانت متنفسا للقطاع قبل الحرب في تموين أسواقها واستيراد السلع من الخارج ومنها معبر رفح ومعبر كفر أبو سالم وغيرها.
وسط هذه المأساة الإنسانية يقف العالم متفرجا تجاه ما يحدث في القطاع، بليد الإحساس، مستفز المشاعر وردود الفعل، يذرف الدموع فقط على قتلى الاحتلال وجرحاهم وأسراهم، ولا يعبأ بما يحدث من مجازر بشرية على الجانب الآخر.
عالم عنصري ومقزز بامتيار، يثور ويغضب بشدة عندما تدهس شاحنة كلباً عاقراً أو قطة تائهة في أحد شوارع دولة غربية
لا يتحرك لوقف المأساة ضد أهالي قطاع غزة، بل يتحرك فقط لدعم الاحتلال في جرائم الإبادة الإنسانية الشاملة التي يرتكبها بحق الفلسطينيين، وتوفير كل أنواع الأسلحة الفتاكة ليواصل إبادته وقتله أطفال ونساء وعجائز غزة.
عالم عنصري ومقزز بامتيار، يثور ويغضب بشدة عندما تدهس شاحنة كلباً عاقراً أو قطة تائهة في أحد شوارع دولة غربية.
لكن أن يتعرض نحو 2.3 مليون من أهالي غزة لمجاعة وعطش وخطر الموت، فهذا أمر لا يشغله، لا يهمه، لأنه ينظر إليهم على أنهم "حيوانات بشرية" كما وصفهم وزير الدفاع الإسرائيلي المقزز يوآف غالانت يوم 9 أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
لا يعبأ هذا العالم بالتحذيرات الصادرة حتى عن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، أمس الثلاثاء، من أن الوضع في قطاع غزة يتدهور بشكل متسارع، وأنه لم يبق في المتاجر سوى ما يكفي لأربعة أيام من مخزون الغذاء.
ولا يعبأ كذلك بوصف منظمة "هيومن رايتس ووتش" تصريحات الوزير الوقح غالانت حول فرض الحصار على غزة بأنها "مروعة مقززة" وأنها تمثل "دعوة لارتكاب جرائم حرب".
هذا العالم يضبط مشاعره "الجياشة" والمرهفة على البوصلة الإسرائيلية، فعندما يزعم نتنياهو أن حماس تقطع رقاب أطفال إسرائيل، يردد بايدن ومعه الإعلام الغربي تلك المزاعم من دون تفكير أو تمحيص أو صورة أو فيديو من أرض الواقع.
العالم يضبط مشاعره "الجياشة" على البوصلة الإسرائيلية، فعندما يزعم نتنياهو أن حماس تقطع رقاب أطفال إسرائيل، يردد بايدن المزاعم بلا تدقيق
ليس هذا هو وقت التدقيق عند هؤلاء، هناك حرب مشتعلة لاسترداد كرامة جيش مهزوم ودولة منكسرة، والمهم هو أن يكون رد الفعل على مقاس بوصلة الاحتلال.
إسرائيل ترتكب جريمة حرب مكتملة الأركان ضد أهالي غزة، فهل تتحرك المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة ومعاقبة قادة الاحتلال على ارتكاب تلك الجريمة الشاملة، كما تحركت من قبل في رواندا والبوسنة والهرسك وسيراليون وغيرها من الدول التي شهدت مجازر ضد الإنسانية.
وقبلها، هل يتم فتح المعابر حتى يمر من خلالها مساعدات الأغذية والأدوية والوقود ومقومات الحياة للفلسطينيين؟