- الحكومة الروسية تمدد إلزام المصدرين ببيع عوائدهم بالعملة الصعبة وتثبيت سعر الفائدة عند 16% لدعم استقرار العملة وسوق المال، معكسة استراتيجية البنك المركزي لحماية الاقتصاد.
- التجربة الإيرانية توفر نموذجًا لروسيا في التكيف مع العقوبات، مما يحفز تغييرات هيكلية لتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على صادرات محددة، بينما تتحسن توقعات أداء الاقتصاد الروسي.
يبدو الاقتصاد الروسي متماسكاً في مواجهة العقوبات الغربية الواسعة، مستفيداً في ذلك من الإجراءات النقدية التحوطية التي اتخذها البنك المركزي، فضلا عن قوة الاستهلاك المحلي واستقرار صادرات الطاقة، والاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي تعرضت للعقوبات على رأسها إيران.
هيمن حدثان رئيسيان على المشهد الاقتصادي في روسيا في نهاية إبريل/نيسان الجاري، هما تمسّك "المركزي" بالإبقاء على سعر الفائدة الأساسية عند مستوى مرتفع يبلغ 16%، وتمديد إلزام كبار المصدّرين ببيع عوائدهم بالعملة الصعبة لمدة عام آخر. وأعلنت الحكومة الروسية، السبت الماضي، عن تمديد البيع الإلزامي للعملة الصعبة لكبار المصدرين الروس لمدة سنة كاملة، وفق بيان أصدره مجلس الوزراء عبر قناته على "تليغرام"، قائلاً إن "القرار سيسهم في الحفاظ على استقرار سعر صرف العملة وصمود سوق المال الروسية".
وتقررت زيادة المهلة لإيداع العوائد بالعملة الصعبة في الحسابات من 90 يوماً إلى 120 يوماً من تاريخ تسليم السلع والوفاء بالأعمال وتقديم الخدمات بموجب العقود التجارية الخارجية.
ومنذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كان يتعين على المصدرين إيداع ما لا يقل عن 80% من عوائدهم في الحسابات داخل روسيا، وبيع 90% من هذه المبالغ. وكان من المقرر أن ينتهي مفعول الإجراء في 30 إبريل/نيسان الجاري، لكن القرار الحكومي يمدده حتى 30 إبريل 2025. وفيما يتعلق بسعر الفائدة الأساسية، فلم يبق المصرف المركزي الروسي عليه عند مستوى 16% فحسب، بل ألمح أيضا إلى إمكانية رفعه، وذلك خلافاً للتوقعات السابقة ببدء الخفض التدريجي للفائدة خلال الأشهر المقبلة، وسط تكيف الاقتصاد الروسي مع الفوائد المرتفعة التي لم تعد تؤثر بشكل سلبي على نموه.
إلى ذلك، سجلت أسعار النفط العالمية في النصف الثاني من الشهر الجاري، موجة جديدة من الارتفاع، مقتربة من عتبة 90 دولاراً للبرميل لمزيج برنت الذي يستخدم لتسعير النفط عالمياً، مشكّلة بذلك عامل دعم إضافياً للاقتصاد الروسي.
استقرار الروبل الروسي رغم العقوبات
بموازاة ذلك، يختتم الروبل الروسي الشهر الحالي، بأداء متماسك أمام العملة الأميركية عند مستوى نحو 92 روبل للدولار من دون أن تتحقق التوقعات بتراجعه الفوري بعد إجراء الانتخابات الرئاسية في مارس/آذار الماضي، مع بقاء تساؤلات حول قدرة العملة الروسية على الصمود على المديين المتوسط والبعيد. ويعتبر المحلل المالي مارك غويخمان، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الروبل الروسي حظي منذ بداية العام الجاري بمجموعة من عوامل الدعم، بما فيها ارتفاع أسعار النفط وبيع عوائد الصادرات والإبقاء على الفوائد مرتفعة.
يقول غويخمان الذي يحمل درجة الدكتوراه في الاقتصاد ويشغل عضوية لجنة الخبراء في منصة "أونلاين فوز" التعليمية إن "استقرار الروبل في العام الحالي يعود إلى عدد من العوامل التي من المنتظر أن يستمر مفعولها في الأشهر المقبلة، منها زيادة أسعار النفط من 75 دولاراً إلى نحو 90 دولاراً للبرميل منذ بداية العام، وإلزام المصدرين ببيع عوائدهم بالعملة الأجنبية، فضلاً عن السعر المرتفع للفائدة الأساسية".
ومع ذلك، يقر المحلل المالي الروسي بوجود عوامل أخرى قد تؤثر سلباً على أداء الروبل، مشيرا إلى تفاقم الصعوبات المتعلقة بتلقي تحويلات قيمة الصادرات وتراجع حصة العملة الصعبة فيها، ما يؤدي إلى انخفاض عرضها في السوق الداخلية. ويضيف: "يمكن اعتبار التراجع التدريجي للروبل توجهاً راسخاً، ومن المرجح أن يتخطى الدولار عتبة الـ94 - 95 روبل خلال الأشهر المقبلة، ولا يجوز استبعاد بلوغه عتبة الـ100 روبل النفسية الهامة".
من جهتها، حسّنت وزارة التنمية الاقتصادية الروسية توقعاتها لأداء الاقتصاد الروسي في أعوام 2025-2027، متوقعة أن يسجل الناتج المحلي الإجمالي نمواً نسبته 2.8% في 2024 مقابل 3.6% العام الماضي. وبالقيمة الاسمية، قد يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي 200 تريليون روبل (أكثر من تريليوني دولار) في 2025، وفق وزارة الاقتصاد.
وتعد هذه التوقعات أفضل من تلك التي وضعتها الوزارة ذاتها في الخريف الماضي أثناء إعداد الميزانية الفدرالية، حين توقعت نمواً بنسبة 2.8% و2.3% في عامي 2023 و2024 على التوالي. وأظهرت التوقعات الجديدة أن الطلب الاستهلاكي الداخلي سيكون هو المحرك الرئيسي للنمو خلال العام الجاري، على أن تبلغ نسبة زيادة الأجور الحقيقية (أي الفارق بين نسبة زيادة الرواتب ومعدل التضخم) 6.5%. ومع ذلك، توقعت وزارة الاقتصاد تراجعاً تدريجياً لسعر صرف الروبل إلى 94.7 روبل للدولار كمستوى متوسط لعام 2024، ونحو 100 روبل في عام 2025، و101 روبل في عام 2026.
التجربة الإيرانية مع العقوبات
وفي تقرير بعنوان "العالم في دهاليز العقوبات: السياسات الصناعية على مفترق طرق" من إعداد مركز بحوث السياسات الهيكلية التابع للمدرسة العليا للاقتصاد في موسكو، رأى معدوه أن تجربة الدول الكبرى مثل الصين وإيران في التكيف مع العقوبات قد تكون مفيدة جزئياً لروسيا. وذكر التقرير الذي أوردت صحيفة "إر بي كا" الروسية مقتطفات منه، الأسبوع الماضي، أن من بين السبل العامة للخروج من مصايد العقوبات، خلق الظروف لاستثمارات أجنبية جديدة وتنويع التجارة الخارجية. ورأى معدو التقرير أن تجربة إيران التي تخضع للعقوبات منذ أكثر من 40 عاماً، قد تشكل أهمية بالنسبة إلى روسيا كونها اقتصاداً كبيراً نسبياً.
ووقت فرض العقوبات بعد الثورة الإسلامية في عام 1979، كانت حصة إيران في الاقتصاد العالمي تبلغ 0.9%، بينما كانت حصة روسيا في عام 2021 قبل فرض العقوبات تبلغ 1.9% بما يعادلها بالدولار، أو 3% على أساس تعادل القدرة الشرائية، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي. وتعتمد إيران، شأنها في ذلك شأن روسيا، كثيراً على تصدير النفط. واعتبر معدو التقرير أن سياسات السلطات الإيرانية في مجال التكيف مع العقوبات كانت ناجحة إلى حد كبير، إذ أن تراجع الصادرات بعد فرض عقوبات جديدة، كان يليه في كل مرة نمو تعويضي.
وكذلك من النتائج الهامة للخضوع للعقوبات، تنويع الاقتصاد الإيراني، بما في ذلك تقليص صادرات الخام من الوقود الأحفوري والحديد الخام خلال عقد مضى، مقابل زيادة إنتاج البلاستيك ومنتجاته والمعادن الحديدية وغير الحديدية والزجاج. وبذلك، فإن العقوبات لها مفعول على نمو الناتج المحلي الإجمالي على المدى المتوسط، ولكن هذا التأثير يتراجع على المدى البعيد، إذ تحفز العقوبات تغييرات هيكلية في الدول الخاضعة لها، وليس بالضرورة أن تكون سلبية.
وأقر معدو التقرير بانعدام الإجماع في الأوساط البحثية على كيفية قياس فاعلية العقوبات، إذ يعتبر المحللون السياسيون العقوبات فعالة فقط في حال حققت الأهداف السياسية المعلنة، بينما يقيّمها الاقتصاديون من جهة الخسائر الاقتصادية. وفي تاريخ العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، تم تسجيل أكثر من 1300 حالة فرض عقوبات، لكن أغلبيتها كانت تستهدف اقتصادات فقيرة، فيما باتت روسيا ثاني أكبر اقتصاد بعد الصين خضع لعقوبات واسعة النطاق.