تتآكل قيمة الليرة التركية يوما بعد يوم، لدرجة أن توقعات ترشحها للتهاوي مقابل العملة الأميركية، ليصل سعر الدولار إلى 10 ليرات تركية قبل نهاية العام الجاري.
والملفت هنا أن تركيا مرت بقلاقل سياسية عنيفة، ومخاطر جيوسياسية أعنف خلال السنوات الخمس الماضية، منها محاولة الانقلاب العسكري الفاشل منتصف يوليو 2016، والحرب الشرسة ضد تركيا قبيل الانتخابات الرئاسية والتشريعية في صيف 2018 والتدخل العسكري التركي في سورية وغيرها.
لكن سعر الليرة لم يشهد مثل هذا التهاوي باستثناء صيف العام 2018 الذي شن فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب حربا شرسة ضد الليرة وفرض عقوبات اقتصادية على تركيا.
والملفت في الأمر أيضا أن الحكومة التركية لم تخرج هذه الأيام لتلقي، كعادتها، بأسباب هذا التهاوي على المؤامرات الخارجية التي تستهدف اقتصاد البلاد المتنامي بسرعة ضمن مجموعة العشرين.
أو تتحدث عن حروب اقتصادية خارجية شرسة تستهدف الليرة من قبل قوى إقليمية ودولية عقابا على موقف أنقرة من قضايا سورية والخليج وغاز البحر المتوسط وغيرها
أو أن يخرج أردوغان في مناسبات عدة ليدعو الأتراك لمساندة عملة بلادهم عن طريق التمسك بها، وعدم التكالب على حيازة العملات الأجنبية، ومنها الدولار واليورو، أو أن يعلن أردوغان الحرب على الدولار كما جرى في بداية عام 2019.
بل جاءت لغة أردوغان هادئة هذه المرة كما حدث في بداية أغسطس الماضي، حينما أكد أن "أسعار الصرف والذهب ستستقر عند مستوياتها الصحيحة، وأن التقلبات الحالية مؤقتة، وأن المشكلة الرئيسية للاقتصاد تمثلت في فيروس كورونا، وأن الاقتصادات العالمية شهدت تقلبات حادة بسبب الجائحة، وأن تركيا في صعود، لكن هناك من لا يرغبون في رؤية هذا الصعود".
لكن بشكل عام فإن هناك ما يشبه الصمت من قبل كبار المسؤولين الأتراك في قصة التعليق على اضطرابات سوق الصرف الأجنبي الأخيرة، وشرح أسباب التراجع المتواصل في قيمة العملة، وذلك عكس ما حدث في مرات سابقة.
نحن هنا أمام عدة احتمالات، الأول هو أن تهاوي الليرة جاء على هوى قادة وساسة تركيا، خاصة وأنه يلعب دورا مهما في زيادة إيرادات النقد الأجنبي من قطاعات مهمة كالصادرات والسياحة والاستثمارات الأجنبية، وزيادة تدفق الأموال الخارجية على قطاعات مثل العقارات وأدوات الدين الحكومية كأذون الخزانة والسندات والبورصة وسوق المال.
والاحتمال الثاني هو أن هؤلاء القادة يدركون أن هناك أسبابا منطقية وراء هذا التهاوي، منها ما هو سياسي بالدرجة الأولى مثل الأسباب التي تتعلق بحالة الاضطرابات والمخاطر التي تحيط بتركيا، وآخرها حرب أرمينيا وأذربيجان والتوترات العسكرية في القوقاز، وقبلها النزاع مع اليونان ودول أخرى في منطقة شرق البحر المتوسط، والحديث عن فرض عقوبات أوروبية على أنقرة، وتصاعد الخلاف مع فرنسا، إضافة لملفات أخرى تتعلق بالشأن الليبي والسوري والخليجي.
وهناك أسباب اقتصادية وراء تهاوي الليرة تتعلق بتأثيرات كورونا الخطيرة على الاقتصاد التركي، وما خلفه الوباء من تراجعات في إيرادات النقد الأجنبي كما حدث في كل دول العالم، خاصة من قطاعات مدرة للدولار بشكل سريع كالسياحة، كما انكمش الاقتصاد التركي بنسبة 9.9% وهو أسوأ انكماش في 10 سنوات.
ومن بين الأسباب المنطقية ما يتعلق بإصرار البنك المركزي التركي على خفض سعر الفائدة بشكل عنيف استجابة لضغوط أردوغان على صانع السياسة النقدية
فقد خفض البنك المركزي الفائدة الرئيسية بأكثر من 15% منذ يوليو/ تموز عام 2019، ما دفع تكاليف الاقتراض إلى الاختفاء تقريبًا، وهذا الخفض الكبير أدى إلى هروب الأموال الأجنبية الساخنة من البلاد، والتي تبحث عن أسعار الفائدة العالية، وبالتالي العوائد السريعة.
ومن بين الأسباب الاقتصادية لتهاوي الليرة كذلك ما يتعلق بتراجع احتياطي تركيا من النقد الأجنبي، وتوسع البلاد الكبير في شراء الذهب والتخلص من الدولار
فحسب أرقام مجلس الذهب العالمي الصادرة يوم الأربعاء فقد أضافت تركيا نحو 3.9 أطنان لاحتياطاتها من النقد الأجنبي خلال شهر أغسطس الماضي، وبالتالي حل البنك المركزي التركي بالمرتبة الـ12 عالميا في الأكثر حيازة للذهب بمقدار 606.6 أطنان، تمثل 48.6 بالمئة من إجمالي الاحتياطيات الأجنبية.
وهناك احتمال يتعلق بأردوغان نفسه، فربما تم نصحه من قبل مستشاريه بعدم التحدث كثيرا في قضية اضطرابات سوق الصرف وتهاوي الليرة، حتى لا يتسبب في حدوث قلاقل للمواطن والمستثمر الأجنبي تسرع من خفض قيمة العملة.
وفي حال الحديث يستخدم أردوغان الأسلوب الهادئ الذي يربط بين التهاوي ومخاطر كورونا الاقتصادية، ويؤكد أن كل عملات الأسواق الناشئة شهدت تراجعا عقب تفشي وباء كورونا.
بشكل عام فإن تهاوي الليرة ليس في صالح تركيا، حتى وإن أدى إلى زيادة مواردها من النقد الأجنبي، فهذا التهاوي يثير قلق المستثمر المحلي قبل الخارجي، كما أن تذبذب أي عملة يثير قلق المشهد الاقتصادي برمته لما له من تأثيرات على الأسعار والتضخم وكلفة إنتاج السلع وغيرها.