على مصارف لبنان أن تكشف أوراقها فوراً

06 مارس 2023
من احتجاج ضد سياسات مصرف لبنان المركزي (حسين بيضون)
+ الخط -

انشغل الرأي العام اللبناني على مدى الأسابيع الماضية بمتابعة التمرّد الذي قامت به المصارف اللبنانيّة، في وجه القضاء والتحقيقات التي تجريها النيابة العامّة الاستئنافيّة في جبل لبنان. موضوع هذه التحقيقات، يتصل بمجموعة من القروض التي حصلت عليها المصارف بقيمة 9 مليارات دولار في بدايات الأزمة، من احتياطات المصرف المركزي، حيث يشتبه القضاء باستعمال جزء هذه الأموال من قبل المصارف لتهريب ودائع حلقة ضيّقة من المودعين المحظيين، مقابل حبس أموال سائر المودعين.

في واقع الأمر، تشير أرقام المصرف المركزي إلى أنّ المصرف فقد نحو 10.5 مليارات دولار في أوّل 10 أشهر من سنة 2020، أي في أولى مراحل الانهيار المصرفي. في المقابل، لم يتجاوز إنفاق المصرف على دعم الاستيراد وتمويل نفقات الدولة بالعملة الصعبة وسائر التحويلات المعروفة الوجهة حدود 5.72 مليارات دولار. وهذا تحديداً ما يدل على تبديد نحو 4.78 مليارات دولار من احتياطات المصرف المركزي، بتحويلات ملتبسة غير معروفة الوجهة بعد.

لهذا السبب بالذات، يستند التحقيق في شبهات تهريب الأموال - عبر قروض المصرف المركزي - إلى معطيات وحقائق جديّة للغاية. وهذه المسألة تتصل بدورها بملف حقوق المودعين، وكشف وجهة إنفاق احتياطات العملات الأجنبيّة، التي تمثّل آخر ما تبقى من أموال المودعين التي أودعتها المصارف في المصرف المركزي.

في العادة، تبرّر أوساط المصارف اللبنانيّة فعلتها بعدم وجود قانون يمنع هذا النوع من التحويلات، إذ لم يقم المجلس النيابي حتّى اللحظة بوضع قانون ينظّم عمليّة استعمال السيولة المتبقية في النظام المالي، وهذا صحيح.

لكن امتناع المصارف عن تأمين السحوبات والتحويلات لعموم المودعين، مثّل بحد ذاته مخالفة قانونيّة جرت بحجّة "الظروف القاهرة". أمّا تهريب ودائع المحظيين والنافذين، في ظل هذه الأزمة بالذات، فيجعل حبس ودائع عموم المودعين عمليّة احتياليّة بامتياز. ومن هذه الزاوية، تكتسب عمليّات تهريب الأموال طابعها الجرمي.

في جميع الحالات، وكما هو معلوم، رفضت معظم المصارف المعنيّة بالملف الامتثال لطلبات رفع السريّة المصرفيّة الصادرة عن القضاء اللبناني، فيما وافقت ثلاثة مصارف فقط على التعاون مع التحقيقات. كما قامت جمعيّة المصارف بإضراب امتد لثلاثة أسابيع متتالية، احتجاجًا على التحقيقات التي يقوم بها القضاء في هذا الملف. ولم تعلّق المصارف إضرابها إلا بعد التأكّد من فرملة التحقيقات القضائيّة، من خلال تدخّل رئيس الحكومة لمصلحة المصارف.

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

ما قامت به المصارف من خلال إضرابها، لم يكن إلا تعسّفًا في استعمال وضعيّتها كمقدّم لخدمة عامّة. فخدمات القطاع المالي، تمامًا كحال خدمات الكهرباء والماء والاتصالات، تمثّل حاجة حيويّة وحسّاسة لا يمكن الاستغناء عنها في أي مجتمع، وهو ما يضعها في مصاف الخدمات العامّة ولو قام بتقديمها القطاع الخاص. وعلى هذا الأساس، لم يكن من الجائز استعمال هذا الواقع، لفرض حصار مالي على المجتمع بأسره، وفرض وقف التحقيقات مقابل فك الإضراب المصرفي.

في المقابل، لم يكن من الجائز كذلك أن يتدخّل رئيس الحكومة، بوصفه أحد القيّمين على السلطة التنفيذيّة، للتحكّم بمسار تحقيقات تجريها السلطة القضائيّة.

فهذا التدخّل مثّل ضربة قاسية لمبادئ الفصل بين السلطات واستقلاليّة السلطة القضائيّة، كما مثّل ضربة لتحقيق كان من المفترض أن يكشف حقائق حسّاسة، تتصل بالمخالفات المصرفيّة خلال مرحلة الانهيار.

أمّا الأخطر، فهو ما قام به وزير الداخليّة والبلديّات، الذي استند إلى تدخّلات رئيس الحكومة ليطلب من القوى الأمنيّة عدم التجاوب مع تعليمات وإشارات النائبة العامّة الاستئنافيّة في جبل لبنان، في ملف مخالفات المصارف بالتحديد.

وبذلك، سجّل وزير الداخليّة والبلديّات سابقة خطيرة، من خلال دفع ضابطة عدليّة، أي القوى الأمنيّة، للتمرّد على طلبات سلطة ادعاء تمثّل الحق العام للمجتمع. وهذه الخطوة مثّلت مرحلة متقدمة من الاستخفاف بعمل القضاء.

وللتمرّد على طلبات القضاء، تحججت المصارف بحق السريّة المصرفيّة الذي تمتلكه. كما اعتبرت أن تعديلات قانون سريّة المصارف التي تم إقرارها عام 2022، والتي تمنح القضاء حق رفع السريّة المصرفيّة، لا تسري إلا على العمليّات المصرفيّة التي تلي تاريخ إقرار هذا القانون.

وفي هذه النقطة، فات المصارف أن النيابة العامّة الاستئنافيّة في جبل لبنان طلبت كشف عمليّات ترتبط بحسابات رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف والمديرين التنفيذيين فيها، وهي تحديدًا الحسابات التي يمكن للقضاء كشف عمليّاتها منذ عام 1988، بحسب تعديلات قانون السريّة المصرفيّة. كما فات المصارف أنّ السريّة المصرفيّة تسري على حسابات عملاء المصارف حصرًا، لا العمليّات التي قامت بها المصارف مع مصرف لبنان والمصارف المراسلة، والتي طلب القضاء كشف عمليّاتها أيضًا.

وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ تعديلات قانون سريّة المصارف عام 2022، هدفت بالدرجة الأولى إلى تمكين القضاء والجهات الرقابيّة من تقصّي أسباب الخسائر التي لحقت بالقطاع المالي، عبر تمكين هذه الجهات من الاطلاع على العمليّات المصرفيّة التي جرت خلال السنوات الماضية.

في المقابل، تحاول المصارف اليوم تفسير التعديلات على نحو يمنع كشف العمليّات التي جرت قبل إقرار التعديلات، وهو ما يفرغ هذه التعديلات من أهدافها الأساسيّة، ويحول دون استخدامها في عمليّة تحديد المسؤوليّات المرتبطة بتجاوزات المراحل السابقة.

في الوقت نفسه، تحججت المصارف بعدم امتلاك النيابة العامّة الاستئنافيّة في جبل لبنان الصلاحيّة المكانيّة للتحقيق في هذا الملف، نظرًا لوجود المركز الأساسي لمصرف لبنان في بيروت (خارج نطاق جبل لبنان).

وهنا تحديدًا، أخطأت المصارف في تفسيرها للقانون مرّة أخرى. فالأموال التي يُشتبه بتهريبها هي أموال عموميّة من احتياطات المصرف المركزي، وهو ما يعطي جميع المواطنين، بمن فيهم المقيمون في محافظة جبل لبنان، صفة المتضرّر من هذه العمليّات. وهذا بالضبط ما يعطي النيابة العامّة الاستئنافيّة في جبل لبنان صلاحيّة النظر في الملف.

ولتبرّر رفضها للتحقيقات، اعتبرت المصارف أنّ الادعاء عليها من قبل النيابة العامّة بتهمة تبييض الأموال سيساهم بقطع علاقاتها مع المصارف المراسلة، وهو ما سيؤدّي إلى عزلة لبنان عن النظام المالي العالمي.

المشكلة الأساسيّة في حجّة المصارف هنا، تكمن في تجاهلها حقيقة أنّ الادعاء على مصرفين بتهمة تبييض الأموال جاء بسبب تخلّفهما عن تزويد القضاء بالمعلومات التي طلبها، مع الإشارة إلى أنّ القانون يفرض الادعاء على المصارف بتهمة تبييض الأموال، بمجرّد تمنّعها عن كشف السريّة المصرفيّة بحسب طلب القضاء.

ولذلك، إذا كانت المصارف اللبنانيّة حريصة على سمعتها الدوليّة، فالأفضل لها كشف أوراقها والتعاون مع القضاء، لتفادي الادعاء عليها بشبهة "تبييض الأموال" في حال تمنّعها، كما يفرض القانون. وفي جميع الحالات، من المعروف أنّ هناك أكثر من 42 مصرفًا تمتلك علاقات وثيقة مع المصارف المراسلة، فيما اقتصر الادعاء بتهمة تبييض الأموال حتّى اللحظة على مصرفين، ما يشير إلى مبالغة المصارف عند الحديث عن عزلة لبنان عن النظام المالي العالمي.

بمعزل عن كل ما سبق، وبمعزل عن كل التعقيدات القانونيّة التي تحيط بالملف، على المصارف اللبنانيّة أن تصارح مودعيها بخصوص كل هذه الاتهامات، خصوصًا بعدما تسببت الأزمة بحبس أموال المودعين لثلاث سنوات متتالية.

وهذه المصارحة، يفترض أن تشمل الكشف عن وجهة التحويلات التي ينظر فيها القضاء، ومشروعيّتها، واتصالها باستنزاف احتياطات المصرف المركزي في بدايات الأزمة. هذا الواجب الأخلاقي والمهني يبقى اليوم أهم من النقاش القانوني، الذي تتذرّع به المصارف للتملّص من التعاون مع القضاء.

المساهمون