ضربة ثلاثية للاقتصاد الكيني

25 ديسمبر 2020
+ الخط -

ضربات متلاحقة أصابت الاقتصاد الكيني خلال السنوات الأخيرة تسببت في سلسلة من التراجعات للنمو الاقتصادي للبلاد، وآخرها تداعيات انتشار كورونا، والتي زادت من الأوجاع الاقتصادية، لتضع البلاد على حافة تحديات كبرى، ربما تعيد للأذهان الصعوبات السياسية والاقتصادية الكبرى التي حدثت في عقد الثمانينيات من القرن الماضي.

قبل انتشار كورونا كانت كينيا قد خرجت لتوها من عدة أزمات، حيث شرد الفيضان عشرات الآلاف من السكان وقطع الطرق الرئيسية للتجارة، مما قطع سلاسل التوريد وعطل الأعمال التجارية، ولا سيما الزراعية منها، كما أضرت أسراب الجراد بالإنتاج الزراعي، المصدر الأهم لمعيشة الكينيين، وبنهاية عام 2018 حدثت أزمة جفاف كبرى، استمر أثرها خلال عام 2019، حيث انخفض معدل نمو الاقتصاد الكيني في 2019 إلى 5.4% مقابل 6.3% في 2018، ويعزى تباطؤ النمو بشكل رئيسي إلى انكماش النشاط الزراعي بعد تأخر وعدم كفاية هطول الأمطار في النصف الأول من 2019، وعوض ذلك جزئيا القطاعات الخدمية التي دعمت وعوضت النشاط الاقتصادي.
وذكر مكتب الإحصاء الوطني في كينيا على موقعه الإلكتروني أن الناتج المحلي الإجمالي انكمش بنسبة 5.7% في الربع الثاني من 2020، بعد أن حقق نموا نسبته 4.9% خلال الربع الأول، ونموا نسبته 5.3% خلال نفس الفترة من العام الماضي. وهي المرة الأولى التي يتعرض فيها الاقتصاد للانكماش منذ 12 عاما.
وبرر المكتب الأداء الضعيف خلال الربع الثاني بالانكماش الملحوظ في خدمات الإسكان والغذاء والتعليم والضرائب على المنتجات والنقل والتخزين، وتزامن ذلك مع الإغلاق المحلي لمكافحة انتشار فيروس كورونا. وكان ثالث أكبر اقتصاد في أفريقيا قد شهد آخر انكماش له في الربع الثالث من عام 2008، جراء أعمال العنف التي واكبت الانتخابات في تلك الفترة.
كما حذر البنك الدولي أخيراً من انخفاض معدل نمو الاقتصاد الكيني من 5.9% - 6% المتوقعة سابقًا إلى 1% - 1.5% في العام 2020، نتيجة لإجراءات الحد من انتشار (كوفيد-19)، الأمر الذي أدى إلى تراجع أنشطة الشركات التجارية والتي أدت بدورها إلى تقليص فرص العمل وخفض دخل الأسر ومضاعفة معدل البطالة في البلاد.

كما أفاد البنك الدولي كذلك بأن كورونا دمرت سبل عيش العديد من الكينيين ودفعت قرابة مليوني مواطن إلى هاوية الفقر؛ نتيجة للإجراءات المقيدة التي ألقت بظلالها على أنشطة الشركات التجارية، وبأن نسبة لا يستهان بها من هؤلاء قد تنضم إلى شريحة الفقر طويل الأجل، في حال غياب الإجراءات الحكومية الناجعة والسريعة للحيلولة دون ذلك. 
ولا شك أن الاقتصاد الكيني يمتلك العديد من المقومات التي تساعده على مواجهة الضربات المتلاحقة التي تعرض لها خلال الفترة الأخيرة، ولا سيما في ظل المرونة الكبيرة التي يتمتع بها، ونجاح الدولة في تشييد نظام اقتصادي ليبرالي يحافظ على نظام تجارة خارجية متحررة، مع بعض التدخل من الدولة في عدة قطاعات لضبط الأداء وضمان الفاعلية. 
ويأتي القطاع الزراعي في مقدمة القطاعات التي يمكن أن تقوم بدور فاعل في مواجهة الأزمة، ولا سيما أن أكثر من 51% من الأراضي الكينية تتمتع بالخصوبة ووفرة الأمطار اللازمة للزراعة، كما أن ما يقرب من 7% إلى 8% من تلك الأراضي صالحة للزراعة بامتياز، وبالتالي فإن المراهنة على المزيد من تعميق الإنتاج والتصنيع والتصدير الزراعي ربما تساهم بشدة في المواجهة.
ورغم تسبب الجفاف في عام 2018 مع تأخر هطول الأمطار ومعدلاتها الأقل من المتوسط في عام 2019 في تباطؤ نمو القطاع إلى 3.6% مقارنة بـ 6% في عام 2018، وانخفاض مساهمته في نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى 0.7% فقط مقارنة بحوالي 1.3% في العام السابق، إلا أن حالات الجفاف يمكن مواجهتها من خلال المزيد من الإنفاق العام على مشروعات الري الحديث، ولا سيما في ظل اعتماد ما يقرب من 75% وربما أكثر من الشعب الكيني على العمل في القطاع.
وفي إطار استعادة زخم النمو المرتفع، يمكن لكينيا الاعتماد على المزيد من تطوير البنية التحتية أسوة بمشروع ميناء مومباسا، والذي أنشئ بتمويل صيني يندرج ضمن مبادرة "الحزام والطريق"، بالإضافة إلى عملية توسيع الميناء، والتي من المتوقع أن ترفع قدرته على الشحن والتفريغ من 19 مليون طن إلى أكثر من 30 مليون طن سنويًا، بحلول 2030 بعد انتهاء المرحلة الأخيرة من التوسعة.
وأسوة كذلك بمشروع السكة الحديدية الذي يربط العاصمة نيروبي بميناء مومباسا والذي تم افتتاحه في عام 2017، ويعتبره الكينيون "مشروع القرن"، حيث بلغت استثماراته 3.8 مليارات دولار، وهو أكبر مشروع بنية تحتية شهدته البلاد منذ استقلالها، ونفذ بمعايير صينية شاملة.

ووفقًا لتقديرات الحكومة الكينية، أصبح الخط يسهم في تنمية الاقتصاد بنسبة 1.5%، حيث خفض من تكاليف الشحن والنقل في منطقة شرقي أفريقيا بنسبة 79% والتكلفة التجارية الكلية بنسبة 40%، وهكذا يمكن لشراكات على غرار الشراكة الصينية أن توفر تمويلاً لبعض المشروعات التي تمثل نقلة نوعية في البنية الأساسية للبلاد.
ويمكن للسياحة أن تقوم بدور كبير في دعم الاقتصاد الكيني، ورغم الإمكانات الكبيرة التي تتمتع بها البلاد من أماكن طبيعية وغابات ومنتجعات ومحميات وأنواع مختلفة من الحيوانات والتي تعكس تنوعا بيئيا ساحرا وجذابا للسائحين، ورغم البنية التحتية والاجتماعية والمادية المتطورة نسبيا مقارنة بجيرانها، والتي يمكن أن تساعد في تنشيط السياحة بصورة أفضل مما هي عليه الآن، لا يزال عدد السائحين إلى كينيا منخفضاً إلى حد كبير، حيث ساهمت السياحة في كينيا بما مجموعه 294.6 مليار شلن (2.9 مليار دولار) في اقتصاد البلاد عام 2017، وهو ما يمثل قرابة 4% من إجمالي الناتج المحلي، تراجع إلى قرابة 2 مليار دولار فقط بنهاية 2019، وكلها أرقام لا تعبر عن الإمكانات السياحية التي لو أحسن استثمارها لأصبحت السياحة أهم قاطرة تنموية دافعة للاقتصاد الكيني خلال الفترة المقبلة.
وأخيراً، يأتي قطاع البترول كأحد القطاعات التي يمكن أن يعول عليها الاقتصاد الكيني للخروج من أزماته، حيث بدأت كينيا في منتصف عام 2018 تصدير أول دفعة من النفط الخام في تاريخها، في إطار خطة تجريبية عرفت باسم "مشروع النفط المبكر". وانطلقت الشاحنات المحملة بالنفط من مقاطعة توركانا، شمالي كينيا؛ حيث توجد بئر التنقيب "نجاميا 8".
وتقدر الاحتياطيات الكينية القابلة للاستخراج بنحو 750 مليون برميل من النفط الخام بكلفة استخراج تجاري مقبولة، ويستهدف "مشروع النفط المبكر" نقل ألفي برميل يوميا من النفط برا إلى مدينة مومباسا (الميناء الرئيسي لكينيا) ليتم تصديرها، وكان من المنتظر أن تبدأ كينيا في الإنتاج الكامل للنفط عام 2021، إلا أن الدولة سارعت في الإنتاج بعد أزمة كورونا لتلافي بعض التداعيات الاقتصادية السلبية على البلاد.
يمتلك الاقتصاد الكيني العديد من القدرات الكامنة، وتتمتع الدولة حاليا بشيء من الاستقرار السياسي الذي يسمح باستثمار تلك القدرات، بما يساعد في تلافي الضربة الثلاثية التي تلقاها الاقتصاد أخيراً، وتبقى الكرة في ملعب الدولة في ترشيد استخدام الأدوات والسياسات والعلاقات المتاحة بحرفية وكفاءة لكي تبتعد بالاقتصاد عن شبح الحالة المتردية في نهاية القرن الماضي.
وكذلك لا يزال القطاع الصناعي بعيدا عن الاستثمار العام والخاص، وربما تبدو فرصة البدء في تصدير البترول كانطلاقة واعدة يمكن أن تساهم في تأسيس بنية أساسية لصناعة بتروكيميائيات محلية، تنقل البلاد، ليس فقط إلى مصاف الاكتفاء الذاتي، بل ربما إلى مصاف الدول المصدرة.

المساهمون