تستمر لغة الدبلوماسية التركية ووضع "أجندة إيجابية" مع الولايات المتحدة، بحسب تعبير المتحدث باسم حزب "العدالة والتنمية" الحاكم، عمر جليك قبل أيام، أو ما سبقه من تصريح للرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنه "سيدشن حقبة جديدة في العلاقات مع واشنطن"، لأن أنقرة تولي أهمية للتحالف الراسخ ومتعدد الأبعاد مع الولايات المتحدة الذي يعود إلى أعوام طويلة.
فاعتماد التهدئة، إن لم نقل العودة ما أمكن لمبدأ "صفر مشاكل" هي السمة الغالبة على السياسة التركية الخارجية، على الأقل، منذ أعلن الرئيس أردوغان عن حزمة الإصلاح الاقتصادي، في مارس/آذار الماضي، لبلوغ بلاده مصاف العشرة الكبار خلال الاحتفال بمئوية تأسيس الجمهورية عام 2023.
إذ رأينا بعد تحديد مرتكزات الإصلاح "المالية العامة والتضخم وقطاع التمويل وعجز الحساب الجاري والتوظيف في إطار استقرار الاقتصاد الكلي"، مساعي تركيا باتجاه المنطقة العربية، فقدمت أنقرة مقترحات حلول وتنازلات للقاهرة ومدت اليد، غير مرة للسعودية، بالتوازي مع إعادة الوجود الاقتصادي والمصالح، مع ليبيا والسودان.
بيد أن تلك "البدائل" وتركيا تعي ذلك جيداً، لا يمكن أن تسد الفاقد مع الولايات المتحدة، أو أوروبا التي تسير على ركب واشنطن، كما أن استمرار مسك العصا من المنتصف، إن لم نقل حافة الهاوية، بمواءمة العلاقات مع موسكو وواشنطن، أتعب الاقتصاد التركي المتفرّغ منذ أعوام، لأخذ دور المصد وإطفاء الحرائق الناجمة عن زيادة عجز الميزان التجاري وتهاوي سعر الصرف وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر، ما أرهق الاحتياطي الأجنبي بالمصرف المركزي وانعكس، أرقاماً ومؤشرات حرجة، على التضخم ومستوى معيشة الأتراك.
قصارى القول: تشخص عيون الأتراك اليوم، إلى قمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" واللقاء المرتقب، بين الرئيسين جوزيف بايدن ورجب أردوغان ببروكسل 14 الشهر الجاري.
والآمال معقودة، وفق ما نقرأ ونسمع، على تذليل النقاط الخلافية حول المشاكل العالقة، وبمقدمتها صفقة استيراد تركيا صواريخ أس 400 الروسية، ولو عقدت أنقرة صفقة أكبر من واشنطن لاستيراد صواريخ باتريوت المضادة للطائرات، وسوق الرئيس أردوغان خلال اللقاء، إقصاء تركيا من برنامج حلف شمال الأطلسي لتطوير مقاتلات إف-35، رغم تكبّد أنقرة 1.4 مليار دولار في قطاع الإنتاج، ووصف بايدن أحداث 1915 بالإبادة، من قبيل العتب الذي يفتح لعلاقات جديدة.
والمرونة التركية التي تتزايد، وإن نظرياً، كلما اقترب موعد القمة المرتقبة، لا يتعلق بحجم التبادل التجاري الذي لا يزيد عن 20 مليار دولار أو ما يقال عن رفعه إلى مائة مليار، أو بالاستثمارات الأميركية بتركيا التي لا تزيد عن 13 ملياراً.
بل على الأرجح، بكف أذى أكبر قوة بالعالم، اقتصادياً وعسكرياً، عن المشروع التركي، خاصة بعد المؤشرات ببدء التعافي وبلوغ نسبة النمو 7% خلال الربع الأول من العام الجاري، بعد ثاني أكبر نسبة نمو بمجموعة العشرين، العام الماضي رغم آثار وباء كورونا.
فتركيا تعي أن التوافق الأميركي، إن لم نقل الشراكة، يبعد عنها آثار تقلب سعر العملة ويزيد على مناخها الاستثماري جذباً إضافياً، ويسرّع بالتالي إتمام المشروعات الكبرى ونسبة النمو وأرقام الصادرات والسياحة، وصولاً لحلم المئوية وتأسيس الجمهورية الثانية.
والعكس على الأرجح صحيح، فاستمرار المناكفة، إن لم نقل العداء مع الولايات المتحدة، والرد على التصريحات والاتهامات بمثلها والعقوبات بالعقوبات ورفع الرسوم بالمثل، سيزيد من الخصومة واستهداف تركيا. إن ليس من واشنطن مباشرة، فمن أدوات تستخدمها الولايات المتحدة، إن بالاتحاد الأوروبي كفرنسا واليونان، أو بالمنطقة العربية كمصر والإمارات. ما يبقي تركيا بموقع المدافع والمرمم لآثار الاستهداف، فيعيقها بالنهاية عن مشروعها، إن لم نقل أكثر.
لكن، نهاية القول: ماذا لو لم يقدم بايدن المرونة لتركيا، ضمن أول جولة خارجية له منذ توليه منصبه في يناير/كانون الثاني الماضي، وهي-الجولة- حافلة ببدائل وتوقع تصويب علاقات هدمها سلفه ترامب، إذ تتضمن جولة الرئيس الأميركي ثلاث محطات في أوروبا، يبدأها من لندن بلقاء رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون والمستشارة الألمانية ميركل ورئيس الوزراء الكندي جاستين ترودو خلال اجتماع مجموعة الدول الصناعية السبع، قبل أن يذهب لبروكسل ليلتقي الرئيس التركي، مع من سيلتقي ضمن وعلى هامش قمة "الناتو"، ليتابع إلى سويسرا لحضور اللقاء الأصعب مع الرئيس الروسي بوتين وينهي، بلقاء رئيس الاتحاد السويسري بارميلين ووزير خارجيته كاسيس.
وربما، لا يروق لمعظم أطراف لقاء الرئيس الأميركي، تحسين علاقات واشنطن مع تركيا، إن لم نقل إن جلهم مستعدون لتعويض الفاقد وتأجيج الخلافات.
خاصة، أن عقبة الصواريخ الروسية التي تصمم تركيا على استكمالها، بل وتلوّح بنقل تقنية التصنيع إلى أراضيها بالتوازي مع مشاريع الطاقة النووية الروسية، تعتبر المطلب، أو الذريعة الأهم بالطرح الأميركي.
وقتها، سيكون الخيار أمام تركيا صعبا، إما أن تستمر بالمواجهة، بالانطلاق من ذهنية وكاريزمية الرئيس أردوغان وما يمكن من إيجاد تحالفات وبدائل، أو تنحني للعاصفة الأميركية ولو على حساب خسارة الصفقة الروسية و إعادة هيكلة كثير من المشروعات، لأن استمرار المراوحة والحرب بالوكالة، سيزيد من خسائر الاقتصاد التركي ويبعد الرئيس عن حلم الجمهورية الثانية.