تفاقمت أزمة شح الطاقة في سورية، والممتدة منذ الشهر الفائت، لتطاول قطع المياه عن ريف دمشق، بحسب تصريحات مدير مؤسسة المياه بالعاصمة السورية، محمد عصام الطباع، منتصف الاسبوع الجاري.
كما رفعت الأزمة من أسعار السلع والمنتجات الاستهلاكية بأكثر من 30% بحسب تصريحات عضو لجنة تجار ومصدري الخضر والفواكه في دمشق، محمد العقاد، ليأتي توقف النقل لكبرى الشركات السورية قبل أيام قليلة، على ما تبقى من قطاعات إنتاجية وخدمية، بعد أن طاولت آثار نفاد المحروقات، قطاعات الزراعة والصناعة وأدخلت البلاد في دوامة أزمات.
اضطراب الأسواق
"شلل تام اليوم بعد توقف النقل"، هكذا وصف التاجر، مأمون الريّس، من دمشق واقع الأسواق بمناطق سيطرة نظام بشار الأسد، كاشفاً خلال اتصال مع "العربي الجديد" إعلان أكبر ثلاث شركات نقل برى بسورية (الأهلية، السراج والقدموس) التوقف عن العمل لعدم توفر المازوت والبنزين.
وأشار التاجر السوري إلى أن توقف النقل البري "يعني عدم وصول العمال للمنشآت وتعطل وصول البضائع والسلع للأسواق"، مضيفاً أن "إيجار السيارة الخاصة، من مدينة حمص وسط سورية إلى العاصمة دمشق (نحو 150 كلم) وصل إلى 800 ألف ليرة سورية (الدولار = نحو 6200 ليرة)، فماذا يمكن أن يحقق التاجر أو الصناعي من أرباح بعد أجور النقل؟". وأوضح أن الأسعار ارتفعت أكثر من 30% بعد رفع أسعار البنزين والمازوت.
وكشف الريّس لـ"العربي الجديد" أن سبب توقف التجار وبعض المنشآت الصناعية، عن الاستيراد هو توقف المصرف المركزي "كلياً" عن تمويل المستوردات أو منح قطع أجنبي للتجار.
وحول تحويل ثمن البضائع بالليرة ولشركات الصرافة حصراً، يجيب الريّس أن ختم إجازة الاستيراد من وزارة التجارة لا يتم، إلا بعد تحويل ثمن البضاعة بالليرة ووفق سعر الدولار بالسوق، الأمر الذي دفع التجار، إلى وقف الاستيراد.
وتطابقت الآراء حول "شلل الاقتصاد السوري"، إذ يؤكد أكثر من مصدر لـ"العربي الجديد" وصول الوضع الاقتصادي والمعيشي داخل سورية "إلى مرحلة العدم" بواقع ارتفاع الأسعار وانقطاع الكهرباء لأكثر من 22 ساعة يومياً، وندرة المحروقات ما أوصل سعر ليتر المازوت بالسوق السوداء لنحو 10 آلاف ليرة في حين تعدى سعر ليتر البنزين 13 ألفاً.
وليس توقف أكبر شركات نقل بري داخلي بسورية أو تهاوي سعر صرف الليرة إلى الأدنى بتاريخ سورية "هو كامل المشهد" بل هناك مؤشرات، يصفها الاقتصادي السوري، محمود حسين، بالأخطر منذ عام 2011.
وأشار إلى تمدد عطلة الأعياد وإغلاق المؤسسات الحكومية، لعدم توفر المشتقات النفطية والكهرباء، فهذا برأيه "مؤشر ينذر لما بعده".
والقصة هذه المرة، ليست فجوة بين الدخل والإنفاق، بل شلل للأسواق بعد توقف منشآت صناعية وخدمية وانعدام القدرة الشرائية للسوريين حسب حسين.
ارتفاع الأسعار
بدّل قرار حكومة بشار الأسد، الأسبوع الماضي، برفع سعر البنزين من 2500 إلى 4900 ليرة لليتر ورفع سعر ليتر المازوت إلى 3000 ليرة، من معادلة تكاليف الإنتاج والسعر النهائي للمواد والسلع الغذائية والاستهلاكية.
وبلغ سعر كيلو البندورة "طماطم" بدمشق نحو 2500 ليرة وارتفع سعر كيلو البطاطا والخيار إلى 3500 ليرة. وسجلت اللحوم رغم تراجع المبيعات نحو 50 ألف ليرة للخروف و25 ألفاً لشرائح الدجاج.
ويقول الاقتصادي السوري، عبد الناصر الجاسم، إن لم نتوقف عند "كوراث سوء التغذية" جراء ارتفاع الأسعار وعجز المستهلك السوري، نسأل أولاً عن سبب ارتفاع أسعار المشتقات النفطية بواقع تراجع سعرها العالمي.
وكشف لـ"العربي الجديد" أن الشحنات النفطية الإيرانية لم تزل تدخل الأراضي السورية، لكنها تدخل ليتم تكرير النفط الخام إلى مشتقات وتعاود الخروج والتصدير من الموانئ السورية. وأضاف: "يبقى جزء من حمولة البواخر تتحكم به الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد أو تعطى لشركة قاطرجي وباسل شوكت لتباع بالسوق بضعفي السعر الرسمي".
وفي حين يصف الجاسم قرارات حكومة الأسد بـ"المتخبطة" التي لا تنظر سوى لتحصيل الأموال من جيوب المواطنين، يرى أن المشتقات النفطية هي عصب الاقتصاد غير مستبعد مزيداً من الشلل والأزمات، ليأتي "إضراب" شركات النقل الإثنين الماضي، نتيجة عدم توفر المحروقات، ضربة إضافية للاقتصاد السوري.
شلل النقل
يجمع سوريون أن تعطيل النقل العام وتوقف النقل الداخلي بين المحافظات، سيزيد من حدة الأزمة وانعكاساتها على العمل العام والاقتصاد الكلي، متوقعين تدخلاً حكومياً سريعاً "بشكل أو بآخر"، لأن الهروب وزيادة أيام العطل الأسبوعية أو عطل الأعياد، لن تحل الأزمة.
وحسب مصادر خاصة من دمشق، يعاني أصحاب السيارات من خسائر تتجاوز نصف مليون ليرة شهرياً، نتيجة تأخر رسائل استلام مخصصات البنزين واضطرارهم لشراء البنزين والمازوت من السوق السوداء.
وتؤكد المصادر، التي رفضت ذكر اسمها، لـ"العربي الجديد" تأخر وصول رسائل البنزين المدعوم من الحكومة للسيارات العامة إلى 12 يوماً بدلاً من 6 أيام، في حين بلغ التأخير 22 يوماً بدلاً من 10 أيام لأصحاب السيارات الخاصة.
وطاولت أزمة شح وغلاء الوقود الشاحنات المحملة من مرفأ طرطوس والمتوقفة عند مكتب الدور منذ أيام تنتظر المازوت بحسب ما نشرت صحيفة "الوطن" المقربة من النظام الإثنين الماضي.
ويقول مدير مكتب تنظيم نقل البضائع بطرطوس، محمد عبد الرحمن، خلال تصريحات أول من أمس، إن المشكلة كبيرة فعلاً، مشيراً إلى وجود نحو سبعمائة شاحنة محملة بمختلف المواد للقطاعين العام والخاص وكلها تنتظر مادة المازوت والكمية التي تأتي إلى محطة المكتب قليلة مقارنة بالكميات التي تحتاجها الشاحنات المحملة والتي لا تقل عن 240 ألف ليتر وأنهم يعطون الأولوية بتعبئتها للشاحنات المحملة بالقمح.
بدوره، أكد محافظ طرطوس عبد الحليم خليل مخاطبة وزير النفط قائلا: "وجهنا كتاباً للوزارة لشرح الواقع وطلب زيادة للمازوت لتعبئة هذه الشاحنات وتعبئة شاحنات أخرى يتم تحميلها في المرفأ حالياً".
حصار الزراعة
تبقى الزراعة أهم عوامل قوة الاقتصاد السوري، كما يقول المهندس، يحيى تناري، لكن أزمة المحروقات بالتزامن مع مشاكل البذور ستؤثر على موسم الحبوب للعام المقبل، كما تلحق بالفلاحين الآن، خسائر فادحة جراء تشغيل المولدات والآلات الزراعية وارتفاع أجور العمال والنقل.
يجمع سوريون أن تعطيل النقل العام وتوقف النقل الداخلي بين المحافظات، سيزيد من حدة الأزمة وانعكاساتها على العمل العام والاقتصاد الكلي
ولا يستبعد المهندس الزراعي خلال حديثه لـ"العربي الجديد" إحجام بعض المزارعين عن استئجار الأراضي، لأن تكاليف الإنتاج، من ارتفاع أسعار البذور والأسمدة والمحروقات، يجعل العمل الزراعي "مقامرة" بواقع تحديد الأسعار وإلزام الفلاحين على تسليم المحاصيل للمؤسسات الحكومية.
وفي حين يحذر المتخصص السوري من انهيار الإنتاج الحيواني نظراً لحاجة مزارع الدجاج للتدفئة وتراجع إنتاج الزراعة المحمية "بيوت بلاستيكية" نظراً لحاجة البيت الواحد إلى 1500 ليتر مازوت بالموسم، يضيف تناري أن الحكومة السورية، بقرارات الانسحاب من دعم المحروقات، تدفع المزارعين للخسائر، بدل من أن تدعم الإنتاج الزراعي لتأمين حاجة البلاد، خاصة من القمح بعد التراجع الكبير من نحو 4 ملايين طن إلى نحو 1.5 مليون.
بالمقابل، لم يستبعد عضو مجلس الشعب زهير تيناوي، رفع سعر مادة الخبز بعد زيادة سعر المازوت المدعوم المخصص للمخابز، مشيرا خلال تصريحات الإثنين الماضي، إلى ضرورة تعديل الرواتب والأجور للعاملين في الدولة من أجل تحسين الوضع المعيشي للمواطن الذي أصبح حالياً غير مقبول أبداً.
توقف آلات الإنتاج
تجلت أزمة ندرة المحروقات، بشكلها الأكبر على المنشآت الصناعية، بحسب ما يؤكد الصناعي السوري، محمد طيب العلو، لـ"العربي الجديد" لأن شراء المازوت بسعر 10 آلاف ليرة، لتشغيل الآلات أو الكهرباء بالمنشآت، سيرفع من تكاليف الإنتاج ويفقد السلعة السورية القدرة على المنافسة بالخارج أو وجود مستهلك محلي.
ويضيف العلو لـ"العربي الجديد" أن أزمة شح المشتقات النفطية أثرت على وصول المواد الأولية الداخلية بالإنتاج من مرفأ طرطوس، مشيراً إلى ما وصفه بتدمير ممنهج للصناعة وتهجير لما تبقى في سورية، بعد المعيقات والملاحقات والإتاوات، لتأتي المشتقات النفطية وقطع الكهرباء، كنهاية للصناعة السورية.
وكان الصناعي برهان عبود قد أكد خلال حديث سابق لـ"العربي الجديد" أن حكومة بشار الأسد لم تسلم المازوت للصناعيين وفق سعر 2500 ليرة، مضيفاً أن ظروف العمل "سيئة للغاية".
الليرة حبل مشنقة
يبقى تدهور العملة السورية ربما، السبب الرئيس بتعرية الاقتصاد ومفاقمة معيشة السوريين، بعد أن هوت إلى أدنى قاع لها منذ 11 عاماً، مسجلة 6200 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد، في حين لم يزد سعر صرف العملة الأميركية عن 50 ليرة قبل عام 2011.
ولم تجد حكومة الأسد التي توقفت عن التدخل المباشر بالسوق لوقف انهيار العملة الوطنية، سوى الملاحقات الأمنية للمتعاملين بغير الليرة، لتوقف، بحسب بيان وزارة الداخلية يوم الاحد الماضي، المتعاملين بالعملات الأجنبية، تطبيقاً لمراسيم نظام الأسد الصادرة عام 2020 بتجريم كل من يتعامل بغير العملة السورية.
تجلت أزمة ندرة المحروقات، بشكلها الأكبر على المنشآت الصناعية، بحسب ما يؤكد الصناعي السوري، محمد طيب العلو، لـ"العربي الجديد"
ويرى المحلل المالي علي الشامي أن سياسة الملاحقة ستزيد من تدهور سعر الليرة وتحول دون وصول الحوالات الخارجية بالعملات الرئيسية لداخل سورية، بل ستذهب الحوالات، وهي ما تبقى للسوريين والاقتصاد برأيه، إلى أسواق الدول المجاورة وتعود بالليرة، ما يزيد التضخم وتهاوي سعر الصرف.
ويضيف الشامي لـ"العربي الجديد" أن قراري الرقابة على تمويل المستوردات "1070 و1071" ضربة أخرى للصناعة والتجارة والعملة الوطنية، لأن رجال الأعمال بالنهاية، سيذهبون للسوق لتأمين القطع الأجنبي لتسديد ثمن مستورداتهم، الأمر الذي يزيد الطلب على الدولار ويعيق عمليات الإنتاج.
ولا يستبعد الشامي استمرار تهاوي سعر صرف العملة السورية مقابل الدولار، والتي برأيه، لم يعد ما يسندها أو يدعمها، لا تجارة ولا احتياطي أجنبي لدى البنك المركزي ولا حتى قبول من المكتنزين.