ثمة إجماع ربما، على أن الاقتصاد، هو المرشح الأقوى بمواجهة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان خلال الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي ستشهدها تركيا العام المقبل، بعد الذي يقال عن تناقض وخلافات بين الأحزاب المعارضة "الطاولة السداسية" ليبقى تضخم الأسعار ونسب الفقر وتراجع سعر الليرة، هي مطارح الشكوك والتحدي بوجه الحزب الحاكم منذ عام 2022 والرئيس المتطلع لتأسيس الجمهورية الثانية خلال الذكرى المئوية لتأسيس الأولى على يد مصطفى كمال أتاتورك.
لذا، بدأ الرئيس التركي أخيراً، بإيلاء الاقتصاد الاهتمام الأكبر، في محاولات مستمرة ومدعّمة بمشروعات، لتحسين الواقع المعيشي، والاستمرار بنسبة النمو المرتفعة، ولكن على طريقته الخاصة المتنافية ربما، مع قواعد الاقتصاد ونصائح المؤسسات الدولية، بل وما تسلكه دول أخرى لمواجهة أزمة اقتصادية باتت عالمية.
ولعل بتخفيض سعر الفائدة المصرفية، بواقع تسابق المصارف المركزية العالمية لرفعها، المثال الأوضح على مخالفة تركيا السياق العام، ومحاولة تقديم أنموذج، لم يثبت حتى اليوم، مدى نجاعته أو فشله.
إذ ليس صحيحاً على الدوام، أن تتطابق النظريات أو حتى القواعد الاقتصادية شبه المسلم بها، مع الوقائع على الأرض والسوق، وإلا، من يعرب لنا عدم تراجع سعر صرف الليرة التركية رغم تخفيض سعر الفائدة بنسب كبيرة ومتتالية خلال الجلسات الأخيرة للجنة السياسات النقدية بالمصرف المركزي التركي.
رغم أن القاعدة البديهية بالاقتصاد تقول: إن تخفيض سعر الفائدة سيؤدي إلى خروج الأموال من خزائن المصارف إلى السوق، فيزيد المعروض النقدي من العملة "عرض وطلب" فيتراجع السعر، والعكس صحيح بحال تطلعت الدول لتحسين سعر الصرف، فترفع سعر الفائدة لتتجه الأموال إلى المصارف، فيقل العرض ويرتفع سعر صرف العملة.
كما أن سعر الفائدة المنخفض يقلل من الطلب على السندات والأذونات، ما يبقي معروض العملة بالسوق كبيراً، ما يؤثر سلباً على سعر الصرف، خاصة إن كان التضخم السنوي يزيد عن نسبة الفائدة على الإيداع أو على الفائدة على الأوراق المالية التي تطرحها الدولة.
بيد أن تركيا التي اقترفت، برأي الكثيرين، جرم أو رهان تخفيض سعر الفائدة بزمن تتجه خلاله معظم المصارف المركزية بالعالم، إلى رفع سعر الفائدة لمواجهة التضخم الذي بات سمة المرحلة وينذر بالمزيد، من دون أن تتأثر العملة التركية بالتخفيض.
ليس صحيحاً على الدوام، أن تتطابق النظريات أو حتى القواعد الاقتصادية شبه المسلم بها، مع الوقائع على الأرض والسوق، وإلا، من يعرب لنا عدم تراجع سعر صرف الليرة التركية رغم تخفيض سعر الفائدة بنسب كبيرة ومتتالية
فالمتابع يعلم أن تركيا، وبعد تثبيت سعر الفائدة عند 14% لسبعة أشهر خلال العام الجاري، بدأت بتخفيض سعر الفائدة، بمعدل 100 أو 150 نقطة شهرياً، ليصل سعر الفائدة بعد آخر تخفيض الأسبوع الماضي، إلى 9%، ولم يتغيّر سعر صرف العملة، إذ يتراوح سعر صرف الدولار عند 18.6 ليرة، زائد ناقص قليلاً منذ ثلاثة أشهر.
ولعلّ السر بكسب أول رهان، قد يراه حتى المتخصصون، منافياً لقواعد الاقتصاد، يكمن بأن تركيا استبدلت الفائدة المرتفعة بإيداع الليرة المحمي، متحملة تكلفة يقول العارفون إنها زادت عن ثماني مليارات دولار حتى اليوم.
ليأتي الرهان الثاني من قناعة وخصوصية تركية أيضاً، وهو تغليب نسبة النمو على مخاطر نسبة التضخم، في جدلية قد لا تقل مخاطرة عن سابقتها.
فالاقتصاد التركي الذي نما بنسبة 7.6% خلال النصف الثاني من العام الجاري، ألزم وكالات التصنيف الائتماني بإعادة النظر في توقعاتها السابقة، فرأينا "ستاندرد آند بورز" على سبيل المثال، ترفع توقعاتها بنمو تركيا لهذا العام إلى 5.2% وتوقعات العام المقبل إلى 2.8% بالوقت الذي تعاني الاقتصادات الكبرى من تراجع النمو والانكماش.
بيد أن التضخم بالمقابل، ارتفع إلى أعلى مستوى منذ وصل حزب "العدالة والتنمية" للسلطة قبل عشرين عاماً، لتتجاوز نسبته 83.45% ما أكل الأجور بعد تضاعف الأسعار، وخلق أمراضاً اقتصادية، كالفقر والبطالة، ربما ليس من السهولة السيطرة عليها، بفترة تعتبر "نكون أو لا نكون" سيواجهها الرئيس خلال الانتخابات العتيدة.
وتنطلق تركيا من هذا الرهان، أو رهان الرئيس نفسه، على اعتباره من يملي تلك الحلول أو يفرضها ويعزل من يخالفها (ثلاثة رؤساء المركزي السابقون مثالاً) من عدم التخلي عن النمو المرتفع، وإلا لا يمكن مواجهة التضخم أو تطلع تركيا لمصاف العشرة الكبار العام المقبل، بعد أن تعدى الناتج الإجمالي 800 مليار دولار، كما أن النمو المرتفع والفائدة المنخفضة، يستقطبان الرساميل الخارجية، خاصة ببلد يسهّل ويدعم التصدير، ويعتبره السهم الأهم بجعبة مواجهة انتخابات العام المقبل، بعد الأماني بوصول صادرات تركيا 300 مليار دولار هذا العام.
ويستند المخطط التركي بهذا الرهان، إلى قائمتي السياحة والتصدير، طبعاً بعد دعم الإنتاج وتوسيع قواعد التوظيف، في متابعة، أو ربط مع الرهان الأول الذي ينشد خروج الأموال من المصارف إلى أقنية إنتاجية ولو صغيرة، صناعية كانت أم زراعية، تراها تركيا من نقاط سر تنوع اقتصادها وقوته.
ومن اللامنطق، تحميلها عبء سداد الديون بسعر فائدة مرتفع.. فضلاً عن ضرب أماني مستثمري الأموال الساخنة الذين كانوا، ولا يزالون، هدفاً لتركيا لا بد من مواجهته، وإبعاده عن التحكم بالسوق وسعر الصرف والفائدة.
نهاية القول: الحديث أو الحكم على نجاح أو فشل رهانات أردوغان، ربما يتطلب الانتظار حتى تنتهي أنقرة من رمي مشروعات ومفاجآت عام الانتخابات، والتي إن بدأت من تشغيل مفاعل "آق قيو" النووي، قد لا تنتهي عند "قناة إسطنبول" وبدء استثمار الغاز المكتشف، ولعب دور المنشق أو الموزّع الحصري، لمعظم غذاء وطاقة العالم.
فالحكم يكون وقت الوصول إلى خط النهاية المقرر في يونيو/ حزيران المقبل، يوم يقول الناخب رأيه في صندوق الانتخابات، بناء على الذي سيراه ويلمسه، من نتائج سياسية بالتعاطي مع دول الجوار، تبدلت لتعود إلى "صفر مشاكل"، وخطط اقتصادية ربما تعتبر سبقاً أو جديدة، تنطلق مما بعد المتعارف عليه وبديهيات علم الاقتصاد.