دولار السوق السوداء يعود في مصر

21 مارس 2022
صعود الدولار يفاقم الصعوبات المعيشية لمعظم المصريين (فرانس برس)
+ الخط -

أطلّت السوق السوداء للدولار في مصر من جديد خلال الأيام الماضية، بعد توقّف استمر قرابة خمس سنوات، في أعقاب تعويم الجنيه أمام العملات الأجنبية في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وحصول مصر على قروض غير مسبوقة من المؤسسات المالية الدولية منها 20 مليار دولار من صندوق النقد الدولي وحده، فضلا عن قيام السلطات بمداهمات وملاحقات واسعة بحق معظم شركات الصرافة العاملة في السوق.

لكن الضغوط المالية المتسارعة التي تشهدها البلاد، بفعل تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية ومخلّفات جائحة كورونا على مدار العامين الماضيين، وسياسة الإنفاق الضخمة على مشروعات إنشائية كبرى يؤكد خبراء اقتصاد أنها غير ذي جدوى اقتصادية، تعيد أزمة التمويل إلى الواجهة من جديد، لتواجه قطاعات واسعة من المستثمرين صعوبات في الحصول على النقد الأجنبي لإتمام صفقات الاستيراد.

17.10 جنيهاً للدولار في السوق السوداء

ويؤكد متعاملون في سوق الصرف أن سعر صرف الدولار في السوق السوداء التي ظهرت بقوة في الأيام الأخيرة، وصل إلى 17.10 جنيهاً، بينما يدور في نطاق 15.70 جنيها في البنوك وشركات الصرافة.

ولم تقتصر السوق السوداء على الدولار، وإنما العملات الصعبة الرئيسية الأخرى، منها اليورو والريال السعودي، إذ يزداد الطلب عليها من رجال الأعمال، والراغبين في السفر، أو شراء مستلزمات من الخارج، عبر شركات الشحن والتوزيع الدولية والمحلية، وعودة رحلات العمرة.

بدأت السوق السوداء في مناطق متفرقة، بين تجار الذهب والسلع الرئيسية في القاهرة، والأسواق الكبرى في المحافظات، الذين خضعوا لقواعد الاستيراد السلعي التي حددها البنك المركزي، وشرع في تنفيذها على كل الرسائل التي يطلبها التجار، اعتباراً من الأسبوع الحالي، التي تلزمهم بسداد قيمة الواردات، وتدبير العملة الصعبة، بنسبة تصل إلى 100% من قيمة الصفقة، ووضعها على قوائم انتظار في البنك المركزي ليحدد أولوية الواردات، وفقا للاحتياجات العامة التي تضعها الحكومة.

ومع خشية التجار من توقّف أعمالهم، وهيمنة الشركات الكبرى على سوق الواردات، شرعوا في شراء العملات الأجنبية من السماسرة، وفق متعاملين في سوق الصرف تحدّثوا مع "العربي الجديد".

ودخل كبار رجال الأعمال، من أصحاب المصانع والشركات العقارية، في منافسة مع تجار السلع الغذائية والإلكترونية والملابس، لتدبير العملة اللازمة لمواردهم، من الخامات ومدخلات الإنتاج للصناعات المختلفة، مع تصاعد موجات سريعة من الغلاء، في أسعار المواد البترولية والكيماوية والتكنولوجية، والطبية، والمعادن والشحن، منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.

كما بدأت شركات عقارية في العاصمة الإدارية الجديدة شرق القاهرة، في منح امتيازات لعملائها الذين يسددون أقساط وحداتهم بالعملة الصعبة، لحاجاتها إلى الدولار في شراء مستلزمات بعض مواد البناء والطلاء والأخشاب، والأدوات الصحية والتي تأثرت بارتفاع الأسعار العالمية، وفق مصادر في القطاع العقاري.

أجواء ما قبل تعويم الجنيه

وتشبه الأجواء الحالية في سوق الصرف فترة ما قبل تعويم الجنيه المصري، في أعقاب اتفاق للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي بقيمة 12 مليار دولار في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، إذ شهد الدولار قفزات في السوق السوداء عن السعر المحدد رسميا والبالغ نحو 8.88 جنيهات، بينما جاء السعر الذي حددته الحكومة في أعقاب تحرير سعر الصرف متجاوزاً كل التوقعات ليلامس في نهاية ذلك العام نحو 19 جنيهاً، قبل أن ينخفض تدريجياً إلى المستويات الحالية البالغة 15.7 جنيهاً.

ويوم الخميس الماضي، نقلت وكالة "بلومبيرغ" الأميركية عن مصادر مطلعة أن مصر تجري محادثات مع صندوق النقد الدولي بشأن دعم محتمل يمكن أن يشمل قرضاً جديداً، إذ تضيف الصدمات الناجمة عن الحرب الروسية في أوكرانيا الضغط على اقتصاد البلاد.

وأشارت المصادر إلى أنّ المناقشات بين الجانبين تشمل العديد من الخيارات، بما في ذلك ما يُسمى بخط التمويل الاحترازي، أي الائتمان الذي يمكن الحصول عليه عند الضرورة.

وفي عام 2020، حصلت مصر من صندوق النقد، بموجب اتفاق استعداد ائتماني، على 5.2 مليارات دولار، بالإضافة إلى 2.8 مليار دولار بموجب أداة التمويل السريع، مما يساعد السلطات على معالجة تأثير جائحة كورونا آنذاك.

وشرعت مصر في تنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي لمدة ثلاث سنوات في أواخر عام 2016، ووافقت على قرض بقيمة 12 مليار دولار مع خفض قيمة العملة بشكل حاد، وتقليص دعم السلع، وتحرير أسعار الطاقة، ما ألقى بظلال سلبية واسعة على شرائح كبيرة من المجتمع، لا سيما محدودي الدخل والفقراء.

وتشير البيانات الحكومية إلى أنّ الفقراء يمثلون نحو ثلث سكان البلاد الذين يتجاوز عددهم 102 مليون نسمة، بينما تشير تقارير صادرة عن مؤسسات اقتصادية مستقلة محلية ودولية إلى أن النسبة الحقيقية تتجاوز 50% من السكان.

وفي وقت سابق من مارس/آذار الجاري، ذكر بنك الاستثمار الأميركي "جيه بي مورغان" أنّ العملة المصرية حالياً أعلى من قيمتها بأكثر من 15%، مشيراً إلى أنّ خفضاً كبيراً في سعر صرف الجنيه قد يكون مطلوباً، إذ قد تحتاج الدولة إلى مزيد من مساعدات صندوق النقد الدولي، إذا استمر تفاقم ضغوط الأسواق المالية. وقدم البنك الأميركي عدة سيناريوهات للجنيه خلال الفترة المقبلة، منها أن يتراجع إلى مستوى 17.25 للدولار.

وبسبب الحرب في أوكرانيا، تواجه مصر تكاليف أعلى بسبب احتياجها الشديد لاستيراد القمح، إضافة إلى فقدها عائدات من السياحة من الزائرين الروس والأوكرانيين لمنتجعات البحر الأحمر شرقي البلاد.

المستثمرين الأجانب يقلّصون مراكزهم المالية

وقال مصرفيون إنّ المستثمرين يقلّصون مراكزهم في مصر منذ الغزو الروسي الذي بدأ في 24 فبراير/شباط الماضي، مما يعكس مخاوف من عجز كبير في الحساب الجاري والميزانية في مصر، فضلاً عن الانكشاف على مخاطر قيام مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) رفع أسعار الفائدة، مضيفين أنّ المستثمرين يخشون تقلص قيمة حيازاتهم إذا اضطرت مصر إلى خفض قيمة عملتها.

ويشعر مستثمرون كثيرون بالقلق من أن تكون الأسواق الناشئة أكثر عرضة للتأثر بأيّ صدمات ناجمة عن اضطراب التجارة مع روسيا، بما في ذلك الزيادة الناجمة في أسعار بعض السلع الأولية.

ووفقاً لبيانات البنك المركزي، كان المستثمرون الأجانب يملكون أذون خزانة لآجال تصل إلى عام قيمتها 321.8 مليار جنيه (20.55 مليار دولار) حتى نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، بالإضافة إلى مبلغ لم يتم الكشف عنه بآجال أطول.

ووفق الخبير الاقتصادي هاني توفيق، في تدوينة على صفحته في فيسبوك، يوم السبت الماضي، فإن مؤشرات دولية تظهر أن مصر هي الأكثر تضرراً من عواقب الحرب الروسية الأوكرانية، الأمر الذي يدعو إلى اتخاذ إجراءات عاجلة واستثنائية "لتلافي ما سيقع على الطبقة الوسطى، التي تتلاشى بالتدريج، وعلى الطبقة الدنيا من أضرار لا قبل لنا بها اقتصادياً وسياسياً، بل وإنسانياً، اتخاذ بعض الإجراءات المالية والنقدية التي تعين الحكومة في توفير التمويل اللازم لدعم هؤلاء المتضررين".

ويتوقع محللون ماليون، تزايد الطلب على الدولار في المرحلة المقبلة، مع زيادة الفائدة على ودائع الدولار، في السوق الدولية والمحلية، في وقت يرتفع فيه التضخم المحلي، بما يعني تآكل قيمة الفوائد التي تصل حالياً إلى نحو 8.5% على الجنيه.

عودة ظاهرة الدولرة

ولم يقتصر الطلب المتزايد على الدولار على أصحاب الأعمال، وإنما أيضا من قبل أصحاب المدخرات الذين يخشون تآكل قيمة أموالهم مع الانخفاض المحتمل للجنيه وقفزات الأسعار التي تشهدها مختلف السلع، الأمر الذي يعيد ما يعرف بـ"الدولرة" إلى السوق، وهي تحويل الجنيه إلى الدولار بغية اكتنازه.

ورغم وجود طفرة في دخل البلاد من العملة الصعبة، من تحويلات المصريين العاملين في الخارج، إذ زادت عن 31 مليار دولار العام الماضي، وارتفاع معدل الصادرات المصرية للسلع غير النفطية، وعوائد قناة السويس، وتراجع الواردات، إلا أن فجوة العجز في الميزان التجاري تتسع بشدة حاليا، مع الارتفاع الشديد في قيمة المنتجات البترولية، وجميع الواردات غير النفطية.

ويتوقع خبراء أن يزيد العجز بين الصادرات والواردات من 40 مليار دولار في المتوسط سنوياً إلى نحو 60 مليار دولار، مدفوعا بزيادة أسعار الواردات، وتراجع عوائد السياحة وارتفاع تكاليف الصادرات المصرية، وأقساط فوائد الدين العام، واحتمال تراجع تحويلات المصريين في الخارج، الذين ستتأثر دخولهم بسبب زيادة أعباء تكاليف المعيشة، أسوة بمواطني الدول التي يعملون فيها.

وتسيطر البنوك المحلية، عبر أذرعها المصرفية التي أقامتها، على مدار السنوات الخمس الماضية، على سوق تجارة العملات الأجنبية، إلا أنها تكتفي بشراء العملة، ولا توفرها لمن يرغب في الشراء.

وفي جولة لـ"العربي الجديد" بين عدد من شركات الصرافة، تبيّن أنها تحتفظ بفارق قرشين في عمليتي البيع والشراء، عن فروع البنوك، التي تراوحت أسعار الشراء فيها، ما بين 15.64 جنيها و15.68 مقابل الدولار، الأسبوع الماضي، ترتفع إلى 15.72 في المتوسط بين البنوك الأجنبية والخاصة.

وقال أحد المتعاملين، الذي فضل عدم ذكر اسمه: "يكتفي جميعهم بالشراء، دون البيع، بما خلق السوق الموازية أمام التجار ورجال الأعمال وراغبي السفر".

ملاحقة شركات الصرافة

وكانت الحكومة المصرية قد شنت حملات واسعة على شركات الصرافة الخاصة، بعد قرار تعويم الجنيه عام 2016، الذي أفقده 60% من قيمته، ولاحقت تجار العملة بقانون الطوارئ وأحالت العشرات منهم إلى المحاكمة الجنائية، بتهمة الإضرار بالأمن القومي ودعم الإرهاب.

وأسفرت الملاحقات عن غلق نحو 53 شركة من بين 110 شركات كانت تعمل، في ظل قانون ينظم عمل شركات الصرافة.

وأعقب الملاحقات تعديل قانون البنك المركزي، الذي رفع قيمة رأسمال شركة الصرافة من 5 ملايين إلى 25 مليون جنيه، على أن توضع كوديعة في البنك المركزي، بما أدى إلى تخارج عشرات الشركات الأخرى، مع إنشاء بنكي مصر والأهلي، أكبر بنكين حكوميين، شركتي صرافة سيطرت، مع فروع البنوك الأخرى، على علميات الشراء والبيع للعملات الصعبة.

واستطاعت الحكومة من خلال قبضة أمنية محكمة، السيطرة على سوق تجارة العملة، وتحديد سعر الدولار، عبر إدارته بتعليمات من البنك المركزي، ساهمت في خفض قيمته في السوق المحلية من 18 جنيهاً عام 2017 إلى 17.62 جنيهاً عام 2019، ثم استقر ما بين 15.60 جنيهاً إلى 16 جنيهاً خلال العامين الماضيين، رغم تراجع عوائد السياحة وتأثر الصادرات مع انتشار وباء كورونا.

المساهمون