توصّل الحزبان الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة، إلى اتفاق قبل أسبوعين على رفع سقف الدين الأميركي، المستمر في تسجيل مستويات غير مسبوقة، ليصبح 31.5 تريليون دولار، بما يسمح بتوفير التمويل المطلوب لحجم الإنفاق المتوقع حتى الربع الأول من عام 2023، ويضمن عدم إغلاق الحكومة أبوابها كما حدث في الأيام الأخيرة من شهر ديسمبر/ كانون الأول من عام 2018، ويجنبها إعلان الإفلاس للمرة الأولى في تاريخها.
ولم يتمكن الحزبان من الاتفاق على حزمة إنفاق الرئيس جو بايدن الخاصة بالأسر الأميركية ومواجهة تغير المناخ، إذ اعتبر كثيرون، ومنهم جو مانشين، العضو الديمقراطي في مجلس الشيوخ، أنّ الحزمة التي تقترب قيمتها من تريليوني دولار مبالغ فيها، وتجعل الملايين من الأميركيين يركنون إلى إعانات البطالة.
وعلى نحو متصل، انتقد لاري كودلو، المستشار الاقتصادي السابق في البيت الأبيض، خطة بايدن، وما تسببت به من ارتفاع الدين العام وفرض "ضرائب اشتراكية" كما أعلن ليندسي غراهام، العضو الجمهوري في مجلس الشيوخ، رفضه قانون رفع سقف الدين، مؤكداً أنّ رغبة الديمقراطيين في زيادة الدور الذي تلعبه الحكومة في الاقتصاد تعد تحركاً باتجاه "أميركا اشتراكية".
وبخلاف التريليوني دولار التي يطمع بايدن في الحصول على موافقة الكونغرس على إنفاقها، أو الـ 1.8 تريليون دولار الأقرب للتمرير لتحسين الخدمات الاجتماعية في أميركا، وما يقرب من 850 مليار دولار تعهدت أوروبا بإنفاقها من خلال صندوق الاستثمار الخاص بها، أنفقت حكومات العالم 17 تريليون دولار على الوباء، تشمل مدفوعات مباشرة وإنفاقاً اجتماعياً وقروضاً وضمانات، بما يمثل 16% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
وتشير التوقعات إلى أنّ الإنفاق الحكومي كحصة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2026 سيكون أكبر مما كان عليه في عام 2006 في كل اقتصاد من الاقتصادات الكبرى، وإلى استمرار تنامي دور الحكومات في اقتصادات الدول وتزايد إنفاقها على الشعوب.
ومع دوره الإيجابي ومساهمته الفعالة في إنقاذ ملايين الفقراء، ممن فقدوا وظائفهم أو انخفضت دخولهم بصورة كبيرة على مدار العامين الماضيين، بسبب تداعيات انتشار الوباء حول العالم، لم ينجُ التدخل الحكومي في مختلف البلدان من الانتقاد، تارة بسبب تراجع دور القطاع الخاص وما يتميز به من قدرة على الابتكار والتطوير، وأخرى بسبب غياب المنافسة وسيطرة البيروقراطية والجمود في أوقات تتطلب ظروفها الكثير من المرونة، وأحياناً بسبب وجود الكثير من شبهات الفساد، إلّا أنّ توفر الشفافية والمحاسبة في الاقتصادات الكبرى ساهم بدرجة كبيرة في الحد من هذه السلبيات.
يتحدثون في الولايات المتحدة، أكبر معاقل الرأسمالية في عصرنا حالياً، عن استمرار تزايد الدور الذي تلعبه الحكومة في حياة الشعوب خلال السنوات المقبلة، معيدين ذلك إلى ثلاثة أسباب رئيسية، أولها قوة الدفع التي توفرت خلال عامي الجائحة بما لا يسمح بـ"عودة الحكومات إلى ثكناتها" عند انحسار الوباء، وثانيها حقيقة ارتفاع أسعار الخدمات الحكومية، وعلى رأسها خدمات التعليم والصحة، بمعدلات تتجاوز معدلات النمو الاقتصادي، وآخرها زيادة الخدمات المطلوب من الحكومة تقديمها للمواطنين مع ارتفاع متوسط أعمارهم نتيجة لتطور البحث العلمي، وتزايد الثروات والرغبة في مكافحة تغير المناخ وتلوث البيئة.
لكن التيارات المعارضة لتزايد الدور الذي تلعبه الحكومات لم تستسلم بالتأكيد، سواء من الأحزاب غير الحاكمة، أو من المواطنين، وهو ما جعل الجدل يدور حالياً حول نوع التدخل الذي يُسمح للحكومات القيام به، لا عن وجود أو عدم وجود ضرورة لتدخلها من الأساس.
لا يوجد في المناقشات الدائرة في واشنطن حالياً، ولا في العواصم الكبرى، عن دور الحكومات في الاقتصاد، ما يدعم تدخل الحكومات في النشاط الاقتصادي لمزاحمة القطاع الخاص، مستفيدة من إعفاء أنشطتها من الضرائب، أو من توفر العمالة المجانية أو منخفضة التكلفة في بعض قطاعاتها، ولا لاستخدام أموال دافعي الضرائب في تشويه أسواق الأسهم والسندات وزيادة ثروات الأثرياء.
وإنما يبدأ مؤيدو تعظيم الدور الحكومي من تشجيع حرية الأسواق والأفراد، فتكون محاربة التغير المناخي مثلاً من خلال تسعير أكثر رشادة للكربون، وتزداد خدمات التعليم والصحة وتقل تكلفتها من خلال الإنفاق على البحث العلمي ودعمه، وتزداد كفاءة وإنتاجية الاستثمارات العامة من خلال المحاسبة والشفافية، وبالطبع لا يوجد في قاموسهم مصطلحات مثل "الأجهزة السيادية" التي توفر الحماية من الرقابة.
انتقد بعضهم خطة بايدن لرعاية الأسر الأميركية، رافضين لعب الحكومة هذا الدور الأبوي في وقتٍ تحتاج فيها البلاد إلى مساهمة كلّ المواطنين من أجل استعادة النشاط الاقتصادي لزخمه الذي كان قبل ظهور الفيروس، خصوصاً مع توفر العديد من برامج الرعاية الاجتماعية والإنفاق الحكومي التي تخدم ملايين الأميركيين، وتساعد منخفضي الدخول منهم.
طالب هؤلاء بتقليل حجم الجهاز الحكومي، وتحسين كفاءته، مع تركيز الدولة لجهودها على إعادة توزيع الثروات، والسماح للمحتاجين باختيار ما يجب فعله بها، والعمل على أن تكون الضرائب واسعة النطاق، وداعمة للمناخ الاستثماري، لا خانقة له.
يقول هؤلاء إنّ تقليل حجم الجهاز الحكومي، وتحسين الرواتب فيه، يساعد في جذب الكفاءات إليه، وهو ما حدث خلال عامي الجائحة، إذ جاءت أغلب التطويرات التي تمت في القطاع الحكومي من خلال جهود العاملين فيه، من أبسط التطبيقات التي لجأ إليها المواطنون لتسهيل أعمالهم، وحتى التوصل إلى المصل الذي ساهم في تقليل الإصابات وحماية ملايين الأميركيين.
توصل الليبراليون والمحافظون في الاقتصادات الكبرى إلى أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه الحكومات في القرن الحادي والعشرين، خصوصاً مع تعدد الأزمات الكبرى وتكرارها، لا من خلال توفير شبكات الأمان الاجتماعي فحسب، إنّما من خلال توفير مجتمعات أكثر عدلاً، وتمهيد الطريق أمام المواطنين لتكون تلك المجتمعات أكثر ازدهاراً، حتى يتزامن نمو الحكومات مع تقدم البشرية، لا مع تزايد قمع الحريات، وتزايد نفوذ الأنظمة الشمولية.