درس ياباني للعملة المصرية

07 اغسطس 2024
بورصة طوكيو، 5 أغسطس 2024 (Getty)
+ الخط -

أثار القلق من احتمال حدوث ركود في الولايات المتحدة، الذي أشعله تقرير الوظائف المخيب للآمال يوم الجمعة، حالة من الفوضى في أسواق الأسهم الأميركية، حيث خسر مؤشر داو جونز الصناعي 610 نقاط، مثلت أكثر من 1.5% من قيمته، وتراجع مؤشر إس أند بي 500 بنسبة 1.84%، بينما وصلت الخسارة في مؤشر ناسداك إلى 2.43%.

ولم يتوقف الأمر عند تراجعات يوم الجمعة، التي لم تكن قليلة بالمعايير الأميركية، حيث استمرت الخسائر في تعاملات أول أيام الأسبوع، ممتدة إلى أغلب أسواق العالم، وكانت البداية في طوكيو، التي تراجع فيها مؤشر نيكاي 225 بنسبة 12.4%، مثلت أكبر انخفاض بنسبة مئوية في يوم واحد منذ اليوم التالي لانهيار الاثنين الأسود في سوق الأسهم الأميركية في أكتوبر/ تشرين الأول 1987، كما كانت خسارة النقاط هي الأكبر في تاريخ المؤشر، الذي بدأ العمل به قبل ما يقرب من 74عاماً، بعدها شهدت سوق الأسهم الأوروبية تراجعات كبيرة، حيث أغلق المؤشر ستوكس 600 للأسهم الأوروبية منخفضا 2.2%، مسجلاً أدنى مستوياته في أكثر من ستة أشهر، ومسجلاً أيضاً أكبر انخفاض إجمالي في ثلاثة أيام منذ يونيو/ حزيران 2022.

ثم جاءت السوق الأميركية لتبدأ تعاملات الاثنين على تراجعات ضخمة، قبل أن تنهي اليوم في موقف أفضل كثيراً، بعدما محت ما يقرب من نصف تلك الخسائر. ومع ذلك، سجل مؤشر داو جونز الصناعي أسوأ أيامه خلال ما يقرب من عامين، متراجعاً بنسبة 2.6%، بعدما خسر أكثر من ألف نقطة، وسجل مؤشر إس أند بي 500 أكبر خسارة له منذ شهر سبتمبر/ أيلول 2022، متراجعاً بنسبة 3%، بينما كانت الخسارة في مؤشر ناسداك بنسبة 3.43%.

ومع تضخم الخسائر، كان هناك ما يشبه الإجماع على أن المخاوف من ركود الاقتصاد الأميركي كانت السبب الرئيسي وراء انهيار الأسواق العالمية، بعد تقرير الوظائف الذي صدر يوم الجمعة.

وتضاعف قلق المستثمرين بسبب خوفهم من أن بنك الاحتياط الفيدرالي ربما يكون قد تأخر بالفعل في خفض أسعار الفائدة لدعم التباطؤ الاقتصادي، حيث قرر البنك المركزي في الأسبوع الماضي الإبقاء على أسعار الفائدة عند أعلى مستوياتها في عقدين من الزمان. لكن العديد من المحللين أرجعوا خسارة الأسهم الأميركية خلال الأسابيع الأخيرة، والتي امتدت أخيراً إلى أسواق الأسهم حول العالم، إلى تصفية ما يعرف باسم "تجارة الفائدة Carry Trade" العالمية للين.

وتشير تجارة الفائدة إلى العملية التي تقوم بها صناديق الاستثمار وصناديق التحوط الضخمة باقتراض مبالغ بالين الياباني بأسعار فائدة قريبة من الصفر وتحويلها إلى دولار، ثم استثمار تلك الدولارات في أصول تحقق أرباحاً مرتفعة في سوق الأسهم والسندات الأميركية، وأسواق أخرى بدرجة أقل.

ورغم أن الأصل في هذه التجارة هو توجيه الأموال الرخيصة التي يتم جمعها في اليابان إلى سندات الخزانة الأميركية ذات العائد الأعلى، إلا أن ميل المستثمرين لتحمل المزيد من المخاطر، خاصة في فترات الصعود الطويلة التي غذت سوق الأسهم منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، امتدت تجارة فائدة الين إلى سوق الأسهم الأميركية، بينما وصل سعر الين مقابل الدولار إلى أضعف مستوياته على الإطلاق، ما اضطر بنك اليابان (المركزي) إلى التدخل في الأسواق عدة مرات لدعمه.

ولكن بعدما رفع بنك اليابان أسعار الفائدة بشكل غير متوقع بمقدار 15 نقطة أساس الأسبوع الماضي، بعد رفعها في مارس/ آذار الماضي، وتزايد احتمالات خفض أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي، تعزز الين، وأثار ذلك موجة من المطالبات margin calls من مؤسسات الإقراض اليابانية للصناديق المقترضة للين بإيداع مبالغ إضافية أو تصفية مراكزهم وبيع الأسهم، فاختاروا الخطوة الأخيرة، الأمر الذي تسبب في موجات بيع قوية عصفت بالأسهم الأميركية وبأسهم أغلب البلدان الأخرى من بعدها.

كنت أتابع أخبار تهاوي الأسهم الأميركية على المحطات التلفزيونية المختلفة، فتذكرت فجأة أن لدينا في مصر "تجارة فائدة" من نوع مشابه، حيث تأتي البنوك وصناديق الاستثمار والمؤسسات المالية المختلفة لتبيع لنا الدولار مقابل الجنيه المصري، ثم لتشتري أذون وسندات الخزانة بالعملة المصرية، فتحصل على فائدة تتجاوز 25%.

وعرفت هذه التجارة في مصر باسم الأموال الساخنة، كونها تنتقل بسرعة بين أسواق المال المختلفة بحثاً عن الأرباح قصيرة الأجل. ويُشير مصطلح "ساخنة" إلى الطبيعة السريعة والمتغيرة التي تميز هذا النوع من رأس المال الاستثماري.

جاءت هذه الأموال الساخنة إلى مصر في مناسبات عدة، كانت في أغلب الأحوال في الفترات التي أعقبت تعويم العملة المصرية، أو لنقل تخفيضها، لتنعم بالفائدة المرتفعة التي تصاحب عادة هذا القرار، ومكثت لفترات قصيرة، ثم ما لبثت أن خرجت من السوق المصرية مع ظهور أول درجة من ارتفاع المخاطر، أو تغير فارق سعر الفائدة في بلدها، أو في أي سوق أخرى، مع الفائدة المدفوعة على استثمارها بالعملة المصرية.

آذتنا الأموال الساخنة وتجارة الفائدة في أكثر من مناسبة، وكان أشهرها خلال الربع الأخير من عام 2021، والأول من عام 2022، حين خرجت من السوق المصرية بسبب ارتفاع عائد سندات الخزانة الأميركية، ثم بعدها مع الغزو الروسي لأوكرانيا في 25 فبراير/ شباط 2022، حيث تسبب خروج تلك الأموال في "جرح كبير" للجنيه المصري، ما زال ينزف حتى الآن، وما زلنا ندفع ثمنه.

ورغم تأكيد وزير المالية (السابق) محمد معيط على أننا تعلمنا الدرس عدة مرات، وقررنا عدم الاعتماد على تلك النوعية من الاستثمارات، لا نبدو في الوقت الحالي قادرين على الاستغناء عن تلك الأموال، حيث تجاوز المبلغ الذي أعلنت الحكومة المصرية دخوله البلاد من تلك الأموال ثلاثين مليار دولار، بينما كانت الزيادة في احتياطي النقد الأجنبي، وما تم سداده من ديون خارجية، أقل من ذلك بكثير.

فهل نتعلم الدرس الياباني؟ أم ترانا سنبحث من جديد عن الدولارات إذا قررت الأموال الساخنة مغادرة السوق المصرية؟

المساهمون