انشغل الأردنيون بالحديث عن مؤتمر القمة العربية العادية الذي عقد دورته الثانية والثلاثين في مدينة جدة على البحر الأحمر في المملكة العربية السعودية. وبرئاسة شرفية من الملك سلمان بن عبد العزيز، ورئاسة فعلية تولى مهامها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
وقد كانت هذه القمة بحد ذاتها، وفي الضيوف الذين حضروها مثيرة للجدل. وأول الشخصيات التي حضرت كانت الرئيس بشار الأسد رئيس الجمهورية العربية السورية، حيث ألقى خطاباً سعى فيه للمرور على القضايا بحرص شديد ولغة منتقاة تقول إننا سعداء بعودتنا إلى عضوية الجامعة العربية، وفي هذا تحقيق لنجاح دبلوماسي كبير. ومن ناحية أخرى لا يريد الرئيس الأسد أن يقول إنه عائد إلى الجامعة ممتناً إلى الحد الذي قد يُحيّد قدرته التفاوضية في إنجاز ما يتوقعه منه القادة العرب الآخرون.
وقد ثارت زوبعة إعلامية، بخاصة من قبل المعارضة السورية في إدلب، ومن جهات غربية أعلنت رفضها لهذا القرار إذ تمسكت الإدارة الأميركية بتنفيذ قانون قيصر الذي يفرض عقوبات على من يتعامل مع سورية اقتصادياً مخالفاً أحكام ذلك القانون الأميركي الذي فصل تفصيلاً واضحاً ضد سورية ونظامها السياسي. واتخذوا مما جرى في سورية خلال الاثني عشر عاماً الماضية ذريعة لذلك.
الدول العربية تريد من الرئيس الأسد وحكومته أن يسيروا في كتابة دستور جديد يشمل جميع أطياف الشعب السوري ومكوناته. ويريدون أن تتخذ سورية خطوات واضحة محددة من أجل إفساح المجال أمام اللاجئين السوريين للعودة إلى مدنهم وقراهم من الدول العربية التي يقيمون فيها. ويريدون كذلك إيقاف تدفق السلاح والمخدرات عبر حدود سورية مع الأردن والعراق إلى دول الجوار. ولو نفذت سورية هذه المهام الثلاث باقتدار، فإن هذا يعني أنها بدأت عملية إعادة البناء، وأنها قررت المصالحة والتفاهم مع المعارضة، وأن سورية حريصة على أمن وسلامة جيرانها.
ولا شك أن الدول العربية التي عملت على عودة سورية عبر إعلان عمان واجتماع نفس وزراء الخارجية في شرم الشيخ، ومن ثم المصالحة السعودية السورية وإعادة فتح السفارتين لكل بلد في عاصمة البلد الآخر كانت جهوداً ناجمة عن قرار بإعادة رسم المشهد الدبلوماسي العربي على أساس المصالح، وانتهاج مبدأ الريال بوليتيك، وليس قبولاً بما جرى في سورية من هدم وقتل ولجوء. واستمرار الوضع على حاله كما كان قبل القمة الأخيرة لم يكن ليفيد الشعب السوري الذي يتفهم الكل حجم المعاناة التي كابدها.
وفي المقابل، فإنّ القول إن الوطن العربي قد عاد إلى سورية، كما تقول بعض أجهزة الاعلام السورية ليس بالكلام المفيد. وهو شبيه بما قالته أجهزة الإعلام المصرية بعد عودة مصر إلى الجامعة العربية. قد يفهم على أنه سعي من هذه الأجهزة للتفاخر برئيسها، ولكن الرئيس الأسد لم يستخدم هذا الاصطلاح في خطابه الذي ألقاه في المؤتمر.
أما الضيف الثاني وهو الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي البالغ من العمر 46 عاماً، فهو يهودي الديانة، وتاريخه يشير إلى دعمه لإسرائيل والوقوف معها، حتى وهي تذبح الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين في فلسطين وسورية ولبنان. وهو يمثل البلد الذي يرتاده كثير من العرب، ويقيمون فيه لأغراض العمل، أو التجارة، أو الاستثمار، أو الدراسة.
وقد اعتبر بعض المحللين العرب أن وصول الرئيس الأوكراني إلى جدة، وإلقاءه خطاباً أمام القادة العرب كان قراراً جدلياً إلى أبعد الحدود. والذين انتقدوا هذا الترتيب حمّلوا المسؤولية عن ظهوره المفاجئ على كاهل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان. وقالوا إنّ في هذا الأمر محاولة دبلوماسية لاحتواء الانتقادات الأميركية والعربية التي وجهت للسعودية لدعوتها للرئيس السوري لكي يحضر المؤتمر.
ربما تتعدد الأسباب والمحفزات التي دفعت الدبلوماسية السعودية لدعوة الرئيس زيلينسكي لمناشدة القادة العرب للوقوف إلى جانب بلاده في حربها ضد روسيا بدلاً من الموقف المحايد الذي اتخذته معظم الدول العربية من تلك الحرب. وإذا كان هناك ضغط أميركي على السعودية لكي تستقبل زيلينسكي فإنّ الأسباب التي جعلت السعودية تقبل بذلك قد تكون ثلاثة.
أولها أن السعودية قد بذلت جهداً دبلوماسياً ونسقت مع الصين من أجل أن تقدم الأخيرة مقترحاً واضحاً للوصول إلى إنهاء للحرب في أوكرانيا. وبهذا تتعمق علاقة السعودية مع الصين من دون إعطاء الولايات المتحدة عذراً لتأخذ موقفاً متأزماً من السعودية.
والثاني أنّ السياسة الخارجية السعودية موجهة بالذات نحو التهدئة في منطقتنا، والتركيز على إنهاء الخلافات الغربية العربية، والخلافات الدولية ذات الأثر السُّمي على رغد العرب بشكل عام ومستوى عيشهم الكريم. فالحرب الروسية الأوكرانية قد ساهمت في انقطاع سلاسل التزويد للحبوب، خاصة القمح، الذي تشكل السوق العربية أكبر مستورد له. وكذلك أدت إلى تراجع مستويات المعيشة في دول العالم الثالث بسبب التضخم. فالحرب والمقاطعات والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية على إيران وروسيا وسورية قد ساهمت في تقليل القوى الشرائية لمداخيل الدول الواقعة تحت العقوبات، والدول النامية بشكل عام.
وفي مجال النفط، فإن شركات النفط الكبرى مثل شيفرون، وإكس موبيل، وشل، وشركة النفط البريطانية (BP) وتوتال الفرنسية حققت أرباحاً خيالية خلال العام 2022. وبلغ هذا الربح غير المتوقع حدوداً جعلت الرئيس الأميركي جو بايدن يشتكي منه. ولو أضفنا إلى ذلك أرباح شركات السلاح، وشركات السمسرة والبورصات السلعية في العالم والبنوك، لرأينا أن نتائج هذه الحرب قد أثقلت كاهل الاقتصاد العالمي، حتى داخل الدول التي توجد فيها هذه الشركات. وصار واضحاً أن أرصدة شركات النفط قد فاقت بكثير في الآونة الأخيرة أرصدة شركات التكنولوجيا الرقمية.
وارتفاع قوة شركات النفط والسلاح والحبوب يذهب لصالح المحافظين على حساب الليبراليين. ولذلك، فإنّ شكوى الرئيس الأميركي جو بايدن من ارتفاع ثروة الشركات فيه إبداء واضح لقلق على نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية العام المقبل 2024.
السعودية التي تسعى لتنويع اقتصادها مستخدمة النفط لتقليل الاعتماد عليه مستقبلاً، لا تريد لسعر النفط أن يهبط إلى ما دون معدلاته المقبولة (في حدود 70 دولاراً للبرميل) ليس لأنّها لا تحب الربح، ولكن لأن هذا ينطوي على تراجع في الطلب على النفط وتسارع في البحث عن الوسائل للاستغناء عنه. والصين تشكل واحدة من أهم أسواقها. ومن هنا، فإنّ السعودية استقبلت زيلينسكي حتى تخفف عنها الضغط الأميركي وليكون لها دور في تعزيز دور الصين التي تسعى حالياً لتقديم مقترح لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
أما السبب الثالث الواضح فهو أنّ زيلينسكي لم يأت إلى السعودية قاصداً حضور مؤتمر القمة العربية، بل كانت هذه انعطافه في رحلته الأساسية التي كان مقصدها الأساس المشاركة في مؤتمر مجموعة السبع (G-7) الذي انعقد في مدينة هيروشيما باليابان، والتي تلقت القنبلة النووية الأولى في تاريخ البشرية يوم السادس من شهر أغسطس/آب من العام 1945، وهكذا تذهب مجموعة السبع إلى بلد عانى الأمرين من الحروب ليشعلوا حرباً كارثية أخرى في العالم.
على الشعب العربي أن يتقبل من الآن فصاعداً أن لغة الخطابات الرنانة في القمم العربية قد انتهت، وأن منح المتحدث خمس دقائق للحديث يكفي ليشرح الزعيم العربي موقف بلده من التطورات الهامة في الوطن العربي وإقليمه والعالم كله.
لم تعد اجتماعات القمة مناسبة كبيرة واغلاق شوارع عامة لمرور مواكب مهيبة؛ ولا تخرج الاجتماعات بقرارات تؤكد على وحدة العرب ومركزية القضية الفلسطينية فحسب. بل صار الزعماء يتكلمون كلاماً مباشراً يختصر مواقفهم. ولم تعد تنجز المعاملات داخل القاعات، بل صارت تنجز قبل القمم، وتأتي القمة لتحول تلك الاتفاقات إلى قرارات سيحكم من خلال تطبيقها على مدى نجاح تلك الاجتماعات.