خريطة تونس الجديدة: التقسيم الإقليمي بلا جدوى اقتصادية

29 سبتمبر 2023
القرى تعاني من الإهمال الحكومي (ياسين محجوب/Getty)
+ الخط -

أعادت سلطات تونس التنظيم الجغرافي والإداري لخريطة البلاد، حيث جرى بمقتضاه التقسيم إلى خمسة أقاليم، وسط جدل واسع حول الجدوى الاقتصادية والتنموية، وقدرة التصور الجديد على تحقيق العدالة وتقاسم الثروات بين مختلف محافظات تونس التي تمر بأسوأ أزمة اقتصادية منذ عقود.
والجمعة الماضي، أصدر الرئيس التونسي قيس سعيد قرارا بتقسيم البلاد إلى خمسة أقاليم ضمت الـ24 محافظة، وذلك تمهيدا لإرساء المجلس الوطني للأقاليم والجهات (الغرفة الثانية) التي نص عليها دستور 2022 لاستكمال الوظيفة التشريعية، بعد أن تم تشكيل مجلس نواب الشعب (الغرفة الأولى).
وضبط الأمر الرئاسي حدود هذه الأقاليم، حيث ضم الإقليم الأول محافظات بنزرت وباجة وجندوبة والكاف، وضم الإقليم الثاني محافظات تونس وأريانة وبن عروس وزغوان ومنّوبة ونابل، فيما ضم الإقليم الثالث محافظات سليانة وسوسة والقصرين والقيروان والمنستير والمهدية، والإقليم الرابع محافظات توزر وسيدي بوزيد وصفاقس وقفصة، بينما ضمّ الإقليم الخامس محافظات تطاوين وقابس وقبلي ومدنين.
لكن التقسيم الجديد لخريطة البلاد أثار جدلا كبيرا في الأوساط الاقتصادية، وسط تشكيك في قدرة هذا التقسيم على تحقيق أهدافه المعلنة.
واعتبر خبير التنمية، حسين الرحيلي أن القرار الذي أقدمت عليه السلطة الأسبوع الماضي كان لغايات انتخابية بحتة، مستبعدا أن يكون له أي دور في تحقيق التكامل الاقتصادي والتنموي بين جهات البلاد، في ظل غياب دراسات واستشارات واسعة يساهم فيها المختصون لتحقيق الغايات الاقتصادية لمشروع التقسيم.

وقال الرحيلي في تصريح لـ"العربي الجديد" إن مشروع تقسيم البلاد إلى أقاليم لا يمكن أن يكون قرارا فرديا للسلطة، مؤكدا أن المشاريع والمخططات التنموية تتطلب دراسات معمّقة تضمن تحقيق أهداف الاندماج الاجتماعي، وخلق الثروة في المحافظات المنتسبة لكل إقليم.
وأكد خبير التنمية أن التقسيم الذي اختارته سلطة قيس سعيّد أفضى إلى اختلال في التوازن بين الأقاليم ذاتها، حيث يتركز 70 بالمائة من سكان البلاد في الإقليمين الأول والثاني، كما يحتكر هذان الإقليمان 80 بالمائة من الثروة، وهو ما يفضي إلى تقاسم الفقر بين باقي الأقاليم.
ويرى الرحيلي أن منوال خلق الثروة يحتاج إلى دراسات اجتماعية وجغرافية في تجميع العناصر التي تخلق التكامل بين المحافظات، معتبرا أن القرار الصادر الجمعة انتخابي بامتياز.
وتابع: "السلطة تعيد إنتاج منوال التنمية القديم بطرق مختلفة"، مؤكدا أن ذلك سيؤدي إلى نفس النتائج، وهي فشل البلاد في خلق ثروة ونمو اقتصادي مستدام ومتوازن بين مختلف الجهات.
وخلال السنوات الماضية تأثر الاقتصاد التونسي بمجموعة من التحديات، منها زيادة عجز الميزان التجاري والدعم الحكومي للمستهلكين، وانعدام الوصول إلى التمويل الدولي مما جعل تمويل الدين المحلي أمرًا صعبًا.
وحسب تقرير أصدرته مجموعة البنك الدولي في مارس/ آذار الماضي، من المتوقع أن يكون نمو الناتج المحلي الإجمالي في تونس خلال عام 2023 حوالي 2.3 بالمائة، على أن يخضع لتقلبات مهمة حسب تقدم ظروف التمويل والإصلاحات الهيكلية.
ويؤكد الخبير الاقتصادي ووزير التشغيل السابق فوزي بن عبد الرحمن أن الدراسات والبحوث التي تبنت سابقا فكرة تقسيم البلاد إلى أقاليم جعلت من التنمية الاقتصادية هدفا رئيسيا لها، غير أن ذلك ارتبط أيضا بحزمة إصلاحات لتحقيق هذه الأهداف.

وقال بن عبد الرحمن في تصريح لـ"العربي الجديد" إن إنجاح مشروع تقسيم البلاد إلى أقاليم أمر صعب في ظل سلطة الفرد الواحد، معتبرا أن تحويل الأقاليم إلى عناصر تكامل اقتصادي خالقة للثروة يتطلب منحها صلاحيات واسعة وإمكانيات بشرية ومادية محترمة، بعد وضع نصوص جديدة للإصلاح العقاري.
وقال وزير التشغيل السابق إن السلطة مطالبة بتمكين الأقاليم من صلاحيات واسعة في الاستثمار، وتعويض المجالس التنموية الجهوية بمجلس إقليمي له صلاحيات فعلية وكفاءات متعددة الاختصاصات، وتعطى له مهمة التخطيط لبرامج التنمية مع ميزانياتها المصاحبة.
ويرى المتحدث أن تحقيق الغايات الاقتصادية من التقسيم الجغرافي الجديد للبلاد يقتضي تقليص صلاحيات السلطة المركزية والجهات لصالح الأقاليم.
غير أن بن عبد الرحمن يستبعد إحالة السلطة المركزية جزءا من نفوذها لفائدة الأقاليم، معتبرا أن منظومة قيس سعيد السياسية والأمنية الإدارية غير مستعدة لذلك اليوم.
وخلال السنوات التي تلت ثورة جانفي (يناير) 2011 حاولت سلطات تونس إنعاش الاقتصاد المتعثر، عبر إصدار قانون استثمار جديد عام 2017 تضمن إجراءات لدفع الاستثمار الداخلي والخارجي، وتشجيع إحداث مؤسسات، وتشتمل على منح وحوافز جديدة لفائدة المستثمرين التونسيين والأجانب، غير أن عدم الاستقرار السياسي حال دون تحقيق هذه الأهداف.
في المقابل يرجح الخبير المالي، محسن حسن، أن يؤدي التقسيم الجديد للبلاد، بشكل أفقي عكس التقسيم السابق العمودي، إلى وضع سياسات قطاعية وتنموية خاصة بالإقليم تكون في تناغم تام مع السياسات الوطنية، وتأخذ بعين الاعتبار الميزات التفاضلية لكل المناطق المكونة له.
واعتبر أن التقسيم الأفقي لخريطة البلاد يساعد على تطوير الاستثمار بالجهات الداخلية للبلاد على عكس التقسيم العمودي المعتمد منذ استقلال البلاد، وذلك من خلال وضع سياسات تحفيزية تأخذ بعين الاعتبار واقع التنمية في الجهات الأقل حظا في التنمية.
وقال حسن في تصريح لـ"العربي الجديد" إن تحقيق الأهداف المتعلقة بخفض الفوارق التنموية بين الجهات يتطلب توفير جملة من الشروط، أبرزها تطوير الإمكانيات البشرية والمادية للجهات، داعيا السلطة المركزية إلى وضع آليات لتحفيز الحراك الوظيفي في اتجاه الجهات الداخلية حتى تكون أحد روافد النهوض بالأقاليم الداخلية بالخصوص.

يرجح الخبير المالي، محسن حسن، أن يؤدي التقسيم الجديد للبلاد، بشكل أفقي عكس التقسيم السابق العمودي، إلى وضع سياسات قطاعية وتنموية


وتعاني تونس من فوارق اقتصادية متزايدة تصب في مصلحة المناطق الساحلية التي تشكّل أكثر من 80 في المائة من المدن، وتستحوذ على 90 في المائة من مجموع الوظائف.
ويكشف تحليل الجغرافيا الاقتصادية لتونس عن ظاهرة التمدين الناجمة إلى حد كبير عن تركّز الأنشطة ومصادر الرزق في المناطق الساحلية الأكثر ديناميكية، لا سيما في إقليم تونس الكبرى، في حين أن المناطق الداخلية لا تزال ذات طابع ريفي بالكامل وتسيطر عليها إلى حد كبير أنشطة الزراعة وتربية المواشي.
وقد أدّى ذلك بدوره إلى نزوح من الأرياف إلى المناطق الساحلية التي تضم اليوم 85 في المائة من الشركات والأعمال في مختلف القطاعات.
وحسب بيانات رسمية، تتركّز معدلات الفقر الأعلى في الأرياف، لا سيما تلك الواقعة في الشمال الغربي والجنوب الغربي أين يصل معدل الفقر إلى 33 بالمائة في بعض المناطق التي اندلعت منها الثورة على غرار تالة من محافظة القصرين.
وعلى النقيض، تُسجَّل نسبة الفقر الأدنى في إقليم تونس الكبرى، حيث تبلغ 4.6 في المائة في العاصمة تونس، و5.6 في المائة في بن عروس، و7 في المائة في أريانة.
وتشهد تونس أزمة اقتصادية حادة فاقمتها تداعيات تفشي جائحة كورونا وارتفاع تكلفة استيراد الطاقة والمواد الأساسية، إثر الأزمة الروسية الأوكرانية المستمرة.

المساهمون