سحب العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة البساط من اهتمامات التونسيين، الذين باتوا مشغولين أكثر بمتابعة ما يجري في القطاع الذي يخوض الاحتلال حرباً إجرامية ضده بدعم غربي وأميركي، بينما كان الانشغال بالأزمة الاقتصادية وتصاعد موجات الغلاء وشح السيولة مستحوذاً على أذهان المواطنين في البلد الواقع في شمال أفريقيا قبل اندلاع هذه الحرب.
وتطغى النقشات حول القضية الفلسطينية في تونس على النقاشات حول مشروع قانون الموازنة للعام المقبل الذي بدأ البرلمان في مناقشته رغم تأثير أحكامه على الواقع المعيشي للتونسيين في المرحلة القادمة.
ومؤخراً شرعت لجان مجلس نواب الشعب في مناقشة مشروع موازنة 2024 التي تقدر بنحو 77.8 مليار دينار (حوالي 24.4 مليار دولار)، بينها 28 مليار دينار (9 مليارات دولار) يفترض تعبئتها عن طريق القروض، أكثر من 5 مليارات دولار منها من الخارج.
ويفسر المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر تحوّل وجهة الاهتمام نحو ما يحدث في غزة مقابل ضعف الاهتمام بالسياسات الاقتصادية التي تخطط حكومة أحمد الحشاني لتنفيذها العام القادم بتقلّص المساحات والمؤسسات التي تفتح المجال لهذا الصنف من النقاشات بعد 25 يوليو/ تموز 2021 (إجراءات الرئيس قيس سعيد للانفراد بالسلطة).
ويقول بن عمر لـ"العربي الجديد" إن "الأحزاب والمنظمات المدنية كانت تفرض النقاشات العامة حول مشاريع الموازنات، وهو ما يدفع عموم المواطنين إلى الاهتمام بهذا الشأن، غير أن تراجع دور الأحزاب السياسية وإضعاف المجتمع المدني جعل الحكومة والبرلمان ينفردان بالمناقشات في غياب شامل للنقاش المجتمعي".
ووفق المتحدث باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية فإن تحجيم دور الفضاء المدني في وضع السياسات العامة يحجب عن المواطنين المعلومات بشأن الإجراءات التي ستترتب عن قانون الموازنة سواء تعّلق ذلك بالجباية أو دعم المواد الأساسية أو السياسة الاستثمارية والتشغيلية للدولة.
ويؤكد أن تغييب المواطن والأحزاب المنظمات المدنية عن المشاركة في النقاشات العامة حول القضايا الوطنية يحوّل وجهتهم نحو القضايا الإقليمية والدولية، ولا سيما القضية الفلسطينية التي تجد دعماً في تونس.
ويشير بن عمر إلى أن ذلك يأتي رغم مواصلة التونسيين صراعهم اليومي مع واقع معيشي صعب، وسط غياب أفق حول تحسين نسب النمو العام ومحاصرة الغلاء، فضلا عن معاناتهم من تراجع الخدمات الأساسية العامة، ولا سيما النقل والصحة والتعليم. ويلفت إلى أن تراجع هذه الخدمات وضعف الاستثمار الحكومي فيها يؤكدان ترحيل الأزمة من عام إلى آخر رغم الزيادة في حجم الإنفاق، وفق ما هو محدد في مشروع الموازنة.
وبحسب مشروع موازنة العام المقبل من المتوقع أن يزيد الإنفاق العام بنسبة 9% مقارنة بموازنة العام الجاري، كما تتجه نية السلطات نحو مواصلة دعم المحروقات والطاقة بمخصصات تبلغ 7.086 مليارات دينار (حوالى 2.2 مليار دولار) مقابل نحو 7.030 مليارات دينار خلال العام الحالي، إلى جانب دعم للغذاء الأساسي بقيمة 2.6 مليار دينار.
ويرى الخبير الاقتصادي خالد النوري أن الحروب عادة ما تعيد تشكيل العلاقات الاقتصادية بين الدول بما في ذلك الدول غير المعنية جغرافياً بالارتدادات المباشرة للصراعات.
ويؤكد النوري في تصريح لـ"العربي الجديد" أن اهتمام التونسيين بالقضية الفلسطينية رغم أزمتهم الداخلية ناجم عن تأقلمهم مع الأزمات وتواصل ضبابية المشهد السياسي الذي يؤثر على التسريع بحلول اقتصادية واجتماعية لفائدتهم.
ويرى أنّ الأزمات الدولية تغطي عادة على الأزمات الداخلية للشعوب، نظراً لتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على مناطق النزاع أو المناطق المحيطة بها. ويقول "رغم البعد الجغرافي كانت للحرب الروسية الأوكرانية تداعيات مباشرة على حياة التونسيين، وتسبب نقص الإمدادات بالقمح في صعوبات في تزويد السوق المحلية، مرجحاً أن تكون أيضاً للأحداث في غزة تأثيرات غير مباشرة على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
ويضيف "غالباً ما تخلف الحروب انكماشاً في النمو وتوجيه الاستثمارات نحو الوسائل الدفاعية على حساب الاستثمارات الخالقة للنمو".
ويشير إلى أن تحسّن النمو في تونس يتطلب بالإضافة إلى تحريك الطلب الداخلي محيطاً اقتصادياً سليماً يسهل تدفق الاستثمارات من الأسواق الخارجية، ولا سيما الاتحاد الأوروبي الشريك الاقتصادي الأول لتونس.
ويتوقع النوري أن تستمر مشكلات التمويل في تونس لعام آخر، بسبب التغيرات المرتقبة في سياسات الممولين الدوليين، وهو ما يزيد من نقص السيولة محلياً ويكثف الضغط على القطاع المصرفي، الذي يتولى تمويل القطاعين العام والخاص.
وكشفت وثيقة مشروع موازنة العام المقبل أن حكومة الحشاني تنوي اقتراض 16.4 مليار دينار (حوالي 5.2 مليارات دولار) من الخارج، بينما لا تزال البلاد تواجه صعوبة كبيرة للحصول على قروض بشروط ميسرة لضمان توريد السلع الأساسية.
وينتظر أن تسدد تونس ديوناً خارجية بقيمة 12.3 مليار دينار (3.9 مليارات دولار) في 2024، بزيادة تبلغ نسبتها 40% عن العام الجاري، كما يبلغ الدين الداخلي الذي يتعين سداده في 2024 نحو 12.38 مليار دينار.
ويلفت النوري إلى أن زيادة الإنفاق الاجتماعي لمساعدة الطبقات الضعيفة مهدد نتيجة نقص فرص النفاذ إلى التمويلات الخارجية. وتبلغ نسبة الفقر في تونس وفق بيانات صادرة أخيراً عن معهد الإحصاء الحكومي 20%، بينما تعاني 34% من الأسر من ديون مصرفية وغيرها.