تهديدات لمسؤولين لبنانيين يدعون للإصلاح: نخب تواجه الانهيار الاقتصادي بالبرود

23 اغسطس 2023
خلال تحركات ضد الفساد (Getty)
+ الخط -

بعد أربع سنوات من الانهيار الاقتصادي، تسعى النخب السياسية في لبنان، التي تتقن فن البقاء في السلطة، إلى تحقيق انتعاش عبر سبل تتجنب الإصلاحات الصارمة التي يطالب بها صندوق النقد الدولي.

يقول خبراء اقتصاديون ومسؤولون سابقون شاركوا في وضع خطة الإصلاح التي وافق عليها صندوق النقد الدولي عام 2020، إن القيادة السياسية وشركاءها في القطاع المصرفي ينفذون عمدا ”خطة ظل” للقضاء على الاتفاق، وإلقاء عبء إنقاذ النظام المالي على عاتق رجل الشارع اللبناني الذي انزلق بالفعل الى هاوية الفقر بسبب الأزمة.

لن يجبر تنفيذ إصلاحات صندوق النقد الدولي، التي تشمل عمليات تدقيق حسابات مصرف لبنان ( البنك المركزي) والمصارف الأخرى التي كانت سرية منذ فترة طويلة، النخب السياسية على تحمل الكثير من تكلفة إصلاح الانهيار المالي فحسب، بل يقول خبراء إنه سيهدد أيضا شبكات الفساد والمحسوبية والهدر التي سمحت لهم بحلب خيرات البلاد لسنوات.

ويقول الوزراء والمستشارون الإصلاحيون الذين يروجون لخطة التعافي التي يدعمها صندوق النقد الدولي إنهم واجهوا مقاومة وعداء. وقال أحد كبار المسؤولين الحكوميين السابقين إنه ومسؤولين آخرين تلقوا تهديدات بسبب دعوتهم لإصلاحات صارمة. وتحدث المسؤول شريطة كتم هويته خشية الانتقام.

وقال آلان بيفاني، المدير العام السابق بوزارة المالية ومهندس خطة الإنعاش، للأسوشييتدبرس ”لم أكن أتخيل أبدا أن هؤلاء الناس سيظلون يتصرفون بهذا القدر من البرود وعدم الإحساس بالمسؤولية رغم حجم الكارثة".

ويراهن عدد متزايد من السياسيين الآن على أن انتعاش قطاع السياحة، وتحويلات المغتربين اللبنانيين، ومشروعات استخراج الغاز الطبيعي، سوف تنعش الاقتصاد دون القيام بإصلاحات تتطلب تضحيات كبيرة منهم.

ألقي باللوم على نطاق واسع في الانهيار المالي على القيادة السياسية التي احتفظت بالسلطة لعقود، جنبا الى جنب كبار المسؤولين المصرفيين وحاكم مصرف لبنان السابق، رياض سلامة.

ويخضع سلامة، الذي أدار المصرف لمدة 30 عاما حتى يوليو/ تموز الماضي، لتحقيق في مزاعم غسل أموال واختلاس، وقد فرضت عليه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وكنداعقوبات قبل أسبوعين.

لسنوات وقبل اندلاع الأزمة، قام مصرف لبنان بتنفيذ ما يقول البنك الدولي إنه “مخطط بونزي” لإبقاء الاقتصاد واقفا على قدميه. فأغرى مصرف لبنان البنوك التجارية بإقراضه الدولار بأسعار فائدة مرتفعة بحيث تستمر لديه السيولة المالية.

ثم قامت البنوك بجذب العملاء لإيداع مدخراتهم بالدولار بأسعار فائدة أعلى، ما أدى إلى تحقيقها أرباحا.

في أواخر عام 2019 انهار المخطط عندما تباطأ تدفق الدولارات، ما أثار حالة من الذعر والتهافت على البنوك. ومنعت البنوك السحب بالدولار، وسمحت للمودعين بالسحب بالعملة المحلية فقط وبسعر أدنى كثيرا من سعر السوق الواقعي، فتبخرت مدخرات الكثيرين بالفعل.

بلغ التضخم في لبنان معدلا هائلا، ووصل سعر عملته، الليرة، الذي كان 1500 مقابل الدولار لمدة ربع قرن، الآن إلى حوالي 90 ألف ليرة في السوق السوداء.

وبسبب نقص التمويل أصبحت إمدادات الكهرباء الحكومية الآن شبه معدومة، وباتت المدارس والمستشفيات العامة بالكاد تستطيع تحمل تكاليف الإضاءة ويستجدي المسؤولون بها مساعدات إنسانية وكأن البلاد في حالة حرب.

وقال سامي زغيب، الخبير الاقتصادي في مؤسسة ”مبادرة سياسات الغد” ومقرها بيروت ”قبل الأزمة كانوا يمتصون الهواء من رئتي المجتمع، والآن بعدما مات المجتمع، أصبحوا يفترسون الجثة”.

وأصبح دخل العاملين في القطاع العام ومعاشات المتقاعدين بالليرة، وهم يشكلون معا قطاعا كبيرا من السكان، عديم القيمة تقريبا. ومن أجل البقاء، يبحث اللبنانيون عن الدولارات، التي يرسلها في الأغلب أقاربهم في الخارج. ويتطلب معظم الشركات الآن السداد بالدولار لكل شيء، بدءا من متاجر البقالة والصيدليات وحتى المستشفيات الخاصة وشراء مولدات الكهرباء الخاصة.

جانيت فارس (62 عاما)، عاطلة من العمل وتعتمد على مساعدات مالية من إخوتها الذين يعانون بدورهم، باتت نادرا ما تقود سيارتها من طراز عام 1995 لأن الوقود بات باهظ الثمن.

وقالت ”كلها أكاذيب. لا أستطيع حتى إصلاح الصنبور”، ووصفت حكام البلاد بـ"المافيا”.

بعد نحو عامين من المحادثات توصل لبنان إلى اتفاق مبدئي مع صندوق النقد الدولي في أبريل /نيسان 2022 بشأن حزمة إنقاذ بقيمة 3 مليارات دولار. لكن الحصول عليها يعتمد على إعادة هيكلة مالية وإصلاحات كبرى لمكافحة الفساد.

من شأن خطة صندوق النقد الدولي أن تضع الكثير من عبء تعويض خسائر النظام المالي على عاتق المساهمين في البنوك التجارية، ومنهم العديد من العائلات السياسية اللبنانية البارزة وشركاء من القطاع الخاص. وبعد عمليات تدقيق واسعة سيتعين على العديد من المصارف بيع أصولها أو الاندماج مع مصارف أخرى. وفي الوقت نفسه، سيتمكن صغار المودعين من استرداد معظم أموالهم.

كما أن من شأنها أن تفتح الباب أمام حزمة الإنقاذ ومليارات الدولارات للاستثمارات والقروض الدولية التي تشتد الحاجة إليها لإعادة بناء قطاعات الإنتاج.

وبدون الاتفاق والإصلاحات المرتبطة به لن يحصل لبنان على أي استثمارات، وسيصبح “معتمدا على مساعدات المجتمع الدولي”، بحسب تحذير رئيس بعثة صندوق النقد الدولي في لبنان، إرنستو ريغو، في يونيو/حزيران.

وصرح وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال، أمين سلام، في مقابلة مع الأسوشييتدبرس مؤخرا بأن عددا متزايدا من مسؤولي الحكومة يعتقد أن لبنان يمكنه الاستغناء عن خطة صندوق النقد الدولي أو تحسين موقفه التفاوضي “من خلال القليل من التدابير والحسابات” في النظام المالي.

وأضاف سلام أن المسؤولين الذين التقاهم مؤخرا من دول الخليج التي كانت تضخ المليارات في لبنان أبلغوه أنهم يتفقون مع هذا الرأي.

ويراهن سلام ومسؤولون آخرون على التحويلات المالية من المغتربين التي تشكل الآن نحو 40 بالمائة من الاقتصاد، كما تستقبل البلاد أعدادا قياسية من السائحين هذا الصيف، الذين ينفقون عملة صعبة على الشواطئ نهارا، قبل أن يستمروا في الإنفاق أثناء قضاء سهراتهم في النوادي الليلية حتى شروق الشمس.

وفي الوقت نفسه تعمل المصارف التجارية - التي نجت من إعادة الهيكلة - على تعويض خسائرها على حساب صغار المودعين، الذين يضطرون إلى سحب دولاراتهم المحتجزة بالليرة بمعدل 15 ألف ليرة، أي سدس قيمتها السوقية الحالية.

بدأ لبنان مفاوضاته مع صندوق النقد الدولي في مايو/ أيار 2020، لكن بيفاني وصفها بأنها كانت ”مزحة” نظرا للانقسامات في الجانب اللبناني.

وقللت الأحزاب الحاكمة والبنوك التجارية والبنك المركزي من أهمية الأزمة، زاعمة أن تقديرات الخسائر المالية البالغة 70 مليار دولار، مبالغ فيها.

وقال بيفاني إن حاكم مصرف لبنان، الذي كان ضمن فريق التفاوض، تجاهل في كثير من الأحيان طلبات إرسال معلومات مهمة حول الوضع المالي وتضاؤل ​​الاحتياطيات الأجنبية. كما لم يتعاون مع التدقيق الجنائي في المعاملات المالية المشكوك فيها لمصرف لبنان.

في غضون ذلك اقترحت المصارف خطة تضع معظم العبء المالي على عاتق الحكومة، فدعت إلى بيع أصول الدولة، أو بعبارة أخرى خطة إنقاذ حكومية. وتوقفت المحادثات خلال أسابيع، ما دفع بيفاني ومستشار وزير المالية، هنري شاول، إلى الاستقالة أواخر يونيو/ حزيران 2020. وقال شاول في بيان استقالته “لن أشهد على هذا التقاعس الضار”.

وأرجأت الحكومة المحادثات، ويتولى ملف التفاوض نائب رئيس الوزراء سعادة الشامي، وهو خبير اقتصادي إصلاحي أمضى نحو عشرين عاما في صندوق النقد الدولي، لكنه يكاد لا يحظى بأي دعم سياسي.

وقال العديد من أعضاء البرلمان للأسوشييتدبرس إن لجنة المال والموازنة بمجلس النواب تجاهلت تشريعات الإصلاح، وإنها بدلا من ذلك ركزت في الغالب على إنشاء صندوق ثروة سيادي لعائدات النفط والغاز المأمولة، على الرغم من أن التنقيب في حقل غاز بحري لم يبدأ بعد.

خارج أماكن الحياة الليلية الصاخبة والفنادق الفاخرة، يفقد الكثير من سكان لبنان الفقراء الأمل.

وتقول فارس عن النخبة الحاكمة في البلاد “إنهم يعيشون في قصورهم، ولا يرون الفقراء الذين بالكاد يستطيعون الحصول على طعام”.

(أسوشييتد برس)

المساهمون