أثار الرئيس الأميركي دونالد ترامب جدلا واسعا بسبب تصريحاته حول سد النهضة بقوله "لا يمكنكم لوم مصر لشعورها بقليل من الانزعاج.. الوضع خطير جدا، ومصر لا تستطيع أن تستمر على هذا الحال.. وسينتهي المطاف إلى نسف السد.. قلت ذلك سابقا، وأقولها الآن بصوت عال: سينتهي المطاف إلى تفجير السد، وعليهم أن يفعلوا شئ، كان ينبغي عليهم إيقافه قبل وقت طويل من بدايته".
ورغم أن المناسبة كانت مباركة ترامب تطبيع السودان مع إسرائيل والاتفاق على إقامة علاقات دبلوماسية برعايته، لكنه ألقى حجرا في مياه المفاوضات الآسنة منذ شهرين، وأثارت تصريحاته قلق الإتحاد الأوروبي والإفريقي وحكومات الصين وروسيا، والحكومة الإثيوبية المعنية بالتصريحات والتي اتهمت ترامب بالتحريض على الحرب ضدها. كما أن تصريحه عن الأزمة باعتبارها وضع خطير جدا هو إحراج لديكتاتوره المفضل السيسي، الذي ظل ينكر وجود الأزمة حتى وقت قريب، وألقى باللوم عليه لتفريطه في عمل شئ لوقف بناء السد منذ البداية.
لكن المصريين الموالين للجنرال السيسي يرون أن ترامب يعبر عن موقف القيادة المصرية الرافض لسد النهضة وللمطالب الإثيوبية في المفاوضات، ويعطي الضوء الأخضر لمصر لضرب السد للدفاع عن حقوقها المائية وأمنها القومي.
وهو توقع منطقي ورد فعل محتمل وطبيعي لإدارة أزمة وجودية للأمة المصرية تستدعي إتاحة كل الخيارات للرد على التهديد الإثيوبي للأمن المائي المصري وللحفاظ على الأمن القومي.
الخيار العسكري
أجمع العسكريون على أن الخيار العسكري ضد سد النهضة الذي قارب على الاكتمال يبدو مستحيلا من الناحية الفنية. ذلك أن المسافة بين أقرب قاعدة عسكرية مصرية في محافظة أسوان، جنوب مصر،
وبين السد أكبر من مدى سلاح الطيران المصري. وإذا استطاعت مصر التنسيق مع إحدى دول الجوار الإثيوبي القريبة من موقع السد للانطلاق من أراضيها، فإن القاذفات التي تمتلكها مصر، مثل أف 16 الأميركية والرافال الفرنسية، غير مجهزة لنقل عشرات الأطنان من المتفجرات اللازمة لتدمير السد. ذلك أن مصر لا تمتلك القاذفات القادرة على حمل القنابل الضخمة والطيران لمسافات طويلة، مثل بي 52 الأميركية وتوبوليف الروسية.
ويبقى الإنزال الجوي واحتلال السد وتخريبه من الداخل، وهو سيناريو أقرب للمستحيل وفق تقدير خبراء العسكرية.
وبخلاف القدرات العسكرية المصرية المحدودة والإرادة السياسية المتخاذلة، يوجد واقع استراتيجي في سد النهضة لا يمكن تجاوزه عند الحديث عن مقاربة عسكرية للسد، ألا وهو الوجود الصيني الروسي الإيطالي في السد من خلال العلاقات السياسية المتينة والقديمة مع أديس أبابا والدعم التقني والاستثمارات المباشرة وغير المباشرة في القطاع الكهرمائي الإثيوبي، وسد النهضة على وجه الخصوص. هذه الأطراف الفاعلة والموجودة على الأرض توفر غطاء سياسيا وحماية لوجستية للسد، وسوف ترفض أي تحرك عسكري مصري ضد السد وتعتبره اعتداء على مصالحها. دليل ذلك أنه بعد تصريحات ترامب مباشرة، كشفت مصادر مصرية خاصة لصحيفة "العربي الجديد"، عن أن موسكو وبكين أبلغتا القاهرة برفضهما الشديد لأي أعمال عدائية ضد أديس أبابا تحت أي ظرف، وبضرورة عدم تجاوز المسار التفاوضي لحل الأزمة. وهناك واقع استراتيجي جديد يغيب عن فكر المؤيدين للعمل العسكري ضد السد، ألا وهو امتلاء بحيرة السد بأكثر من 5 مليارات متر مكعب من المياه، الأمر الذي يجعل السد نفسه قنبلة مائية، ويمكن أن يعرض المدن السودانية بما فيها مدينة الخرطوم التي يسكنها 8 ملايين مواطن لكارثة الغرق المحقق عند تفجيره، لأن مجرى النيل الأزرق لا يستوعب أكثر عن مليار متر مكعب فقط في اليوم.
وقد رأينا كيف تسبب ارتفاع منسوب النهر نتيجة الأمطار الطبيعية في غرق أكثر من 100 شخص وانهيار مئات الآلاف من المساكن في المدن والقرى حول ضفتيه من الحدود السودانية مع إثيوبيا حتى شمال الخرطوم.
إثيوبيا تستثمر التصريحات
رغم أن رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد هدد مصر بشن الحرب عليها إذا اعترضت بناء السد، فقد وظف تصريحات ترامب سياسيا ليعالج انقسام القوى الشعبية الإثيوبية ويحشدها خلف مشروع السد الذي يسوّقه على أنه المشروع القومي الجامع الذي سيحل كل مشاكل الفقر الإثيوبي، وأنه لن يعيش أحد بسلام بعد استفزاز إثيوبيا، وإذا وقف الإثيوبيون متحدين فإنهم سينتصرون على التهديدات الاستعمارية. ودعا شعبه للاستعداد للدفاع عن سيادة إثيوبيا وحماية مخططات الدولة للازدهار.
واستثمر أحمد تصريحات ترامب دوليا بذكاء، فارتدى ثوب المظلومية ووجه خطابا للمجتمع الدولي ادعى فيه أن إثيوبيا تتعرض لعدوان وابتزاز ترامب، ولتهديدات حربية لإخضاع إثيوبيا لشروط غير عادلة ومهينة للسيادة الإثيوبية، وهي انتهاكات للقانون الدولي، معتبرا أن هذه التصريحات تستهدف قارة أفريقيا بكاملها وتسعى إلى إشعال الحرب في منطقة حوض النيل. وتمسك أحمد بمفاوضات الاتحاد الأفريقي لحل الأزمة
ونجح أحمد بفضل تصريحات ترامب الفارغة، في كسب تعاطف الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى جانب بلاده، اللذين دعوَا جميع الأطراف لخفض التوتر والعودة للمفاوضات، وأعلنا دعم الاتحاد الأفريقي في المفاوضات. وتعاطفت جنوب أفريقيا، التي تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأفريقي، مع أحمد، ودعت الأطراف الثلاثة إلى استئناف المفاوضات فورا تحت قيادة رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، الذي يتبنى موقفاً داعماً لإثيوبيا، وقوض مساعي مصر الرامية إلى اللجوء لمجلس الأمن. رامافوزا أعلن بعد تصريحات ترامب عبر حسابه على تويتر، أن المفاوضات الشاملة بين الأطراف الثلاثة في أزمة سد النهضة سوف تستأنف يوم الثلاثاء، 27 أكتوبر/ تشرين الأول، بعد توقف لسبعة أسابيع، وهو ما حدث بالفعل. حيث اجتمعت الأطراف الثلاثة واتفقت على استئناف المفاوضات ودون سقف زمني، وهو ما تسعى إليه إثيوبيا منذ بداية الأزمة قبل عقد من الزمن.
مصر تخسر المواقف
رامافوزا ليس على وفاق مع السيسي، وقد حذره من الإقدام على أي عمل عدائي أو تصعيد للأزمة بعيداً عن المسارات التفاوضية والحلول السياسية، وفق مصادر تحدثت لصحيفة "العربي الجديد".
وأكد أن "طرد" مصر من الاتحاد الأفريقي سيكون أول إجراء يتم اتخاذه ضدها وقتها، وهو الإجراء الذي من شأنه تشجيع القوى الدولية على اتخاذ إجراءات عقابية ضد القاهرة. وفي يوليو/ تموز الماضي، قال موقع بلومبيرغ الأميركي إن مديح ترامب للسيسي علنا بأنه "دكتاتوره المفضل"، بعث بإشارة إلى القادة الأفارقة بأن الولايات المتحدة لن تكون وسيطا نزيها. وذكر الموقع أن رئيس جنوب أفريقيا تحدث باستخفاف عن تدخل ترامب في أزمة سد النهضة، وقال إنه قد يكون بحاجة إلى زيارة أفريقيا للاطلاع على الأمور بشكل شخصي، ولكنه لن يفعل لأنها "حفرة من القذارة"، في إشارة إلى حديث مسرب سابق للرئيس ترامب وصف فيه أفريقيا بأنها حفرة من القذارة. وبحسب بلومبيرغ، فإن رئيس جنوب أفريقيا وجه انتقادا لاذعا للسيسي بالقول إنه بدلا من حل الأزمة داخل الاتحاد الأفريقي فإنه سرعان ما ذهب راكضا إلى سيده. أما الخبراء الأميركيون، العسكريون والسياسيون، فقد اتهموا ترامب بالاستهتار والتهور وتقويض دور الولايات المتحدة الذي يفترض أن يكون حياديا في المفاوضات بين مصر وإثيوبيا. واعتبر خبراء الاستخبارات أن تصريحاته غير مسؤولة ومن شأنها تصعيد التوترات بالمنطقة في وقت كان ينبغي فيه لترامب استغلال منصبه لخفض درجة التوتر بين الطرفين، أو على الأقل الالتزام بالحياد.
مما لا شك فيه أن السيسي فشل فشلا ذريعا في إدارة مفاوضات سد النهضة. واعتبر رئيس أركان الجيش المصري الأسبق، الفريق سامي عنان، أن فشل السيسي كارثي ويصل إلى حد الخطيئة. ورغم أن ترامب ألقى باللوم على المصريين الذين تقاعسوا عن فعل شيء لإيقاف السد قبل وقت طويل من بدايته، لكن كلماته لم تكن كافية لدعم السيسي من أجل تبني عمل محوري يغير من موقفه الضعيف في الأزمة، ولم تكن جادة لردع إثيوبيا عن تماديها في الاستهانة بالراعي الأميركي ورفض مقترحاته وفرض الأمر الواقع. وفي ظل رفض إثيوبيا إبرام اتفاق ملزم يضمن عدم تعريض الحياة في مصر والسودان لضرر جسيم منذ بدأت المفاوضات في سنة 2011، ومع محاولتها السيطرة على النيل الأزرق وتحويله إلى بحيرة إثيوبية، وفق تعبير وزير الخارجية، وما يعنيه ذلك من التحكم في مصير الشعبين المصري والسوداني، ورهن مستقبلهما للإرادة الإثيوبية، فإن السيسي مطالب اليوم بتنفيذ نصيحة ترامب وإنفاذ عمل جاد لوقف مخاطر سد النهضة. وليس بالضرورة أن يكون هذا العمل عسكريا، بل يمكن تحقيق الهدف من خلال وقف المفاوضات العبثية، وسحب الشرعية عن سد النهضة بالانسحاب من اتفاق إعلان المبادئ، ثم رفع القضية إلى مجلس الأمن بموجب البند السابع لتهديدها للسلم والأمن في الإقليم، والمطالبة بوقف البناء في السد حتى إتمام دراسات عدم الضرر وتحقيق أمان السد، فهل يفعلها الديكتاتور المفضل لترامب هذه المرة؟! أتمنى، ولكنني أشك.