كشفت مناقشات ساخنة بين رجال الأعمال وقيادات هيئة التنمية الصناعية، عقدت أمس الأول بالمركز المصري للدراسات الاقتصادية عن معاناة المستثمرين المزمنة، مع البيروقراطية والفساد، في ظل تراجع الجنيه وموجات التضخم التي تدفعها تصرفات المسؤولين بالحكومة والجهات الإدارية بالدولة.
وتبدأ معاناة المستثمرين، وفقاً لاعترافاتهم، منذ مراحل التأسيس والتشغيل المختلفة، بما يكبدهم خسائر فادحة، ويوقف آلاف المشروعات عن العمل، ويدفع العديد منهم إلى نقل أنشطتهم للخارج، وخاصة السعودية والمملكة المغربية.
وأفصح المستثمرون عن تعرضهم لخسائر فادحة، تتراكم منذ بدء تخفيض قيمة العملة، عام 2016، أدت إلى تآكل رؤوس الأموال والأرباح، لأغلب المشروعات، مشيرين إلى أن الاستمرار في تراجع العملة يعوق قدرة المصانع على حساب تكاليف التشغيل، ويربك الأعمال، بسبب التغير اليومي في أسعار مستلزمات الإنتاج، التي تدفعهم إلى عدم المخاطرة بكتابة عقود التوريد، أو التوقف عن العمل، لحين اتضاح الرؤية أو الثبات النسبي لقيمة العملة.
ووفقاً لشكاوى المستثمرين، تحُول ندرة العملة الصعبة دون قدرة المصانع على توفير احتياجاتها من المعدات أو تطوير الأداء، بينما تشهد الدول المنافسة في المنطقة تطورات سريعة، تجعل المنتج المصري ضعيفاً في مواجهة المنافسين، ويتحول السوق إلى المزيد من استيراد المنتجات تامة الصنع.
وأشار المستثمرون إلى وجود نقص في أعداد ومساحات الأراضي المطروحة لإقامة المشروعات، وخاصة المرَفَّقة، والتسعير الذي يجري على الأراضي المستردة للدولة، وفقاً لأسعار السوق الآنية، التي تشهد ارتفاعاً غير مسبوق بمعدلات التضخم.
وأكد المستثمرون أن الأراضي المطروحة أمام المستثمرين تقع في مناطق جبلية وغير مهيأة، بينما تكتفي الجهات الحكومية بوضع أسوار، دون أن توفر الحد الأدنى من مستلزمات التشغيل، وخاصة التيار الكهربائي، الذي يلزم أصحاب المشروعات بدفع تكاليف باهظة لإدخال التيار للمصانع، من مصدر رئيسي خارج المناطق الصناعية، على حساب المستثمر، مع غياب شبكات ضغط المياه ذات الضغط العالي، التي يمكنها مكافحة الحرائق بالورش، وخاصة مصانع الكيماويات والمواد شديدة الالتهاب.
وبيّن المستثمرون أنهم يبذلون جهوداً هائلة للحصول على تراخيص التشغيل، بما يؤخر الرخصة التي تحتاج 3 أيام إلى مدة تراوح ما بين 6 أشهر وعام ونصف عام.
وأكد المستثمرون مغالاة هيئتي التنمية العمرانية والصناعية في تسعير الأراضي، بعد أن تحولتا إلى جهات استثمارية لجلب المال بدلاً من القيام بدورهما التنموي في دفع عجلة الإنتاج والتوسع العمراني، بينما الأراضي توزع مرفقة بأسعار زهيدة أو مجاناً بالسعودية والإمارات والمغرب، ما دفع المصريين للتوجه إلى العمل من هناك، للتمتع بالمميزات التنافسية.
طالب المستثمرون بحل المعوقات التي تضعها الإدارات المحلية بالمحافظات وهيئة المجتمعات العمرانية التي تتحكم في توصيل المرافق وإصدار التراخيص.
ودعا المستثمرون إلى إنهاء حالة الجزر المنعزلة داخل الجهاز الإداري للدولة، والعمل بنظام الشباك الواحد، وأن تتحول هيئة التنمية الصناعية إلى الجهة الوحيدة التي يتعامل معها المستثمر نيابة عن الجهات الحكومية جميعاً، على أن تتولى هي الحصول على الاعتمادات اللازمة من الجهات الأخرى كافة، لتمنع الفساد والضغوط التي يمارسها موظفون على أصحاب المشروعات، وتكلفهم أعباءً مالية طائلة.
وقالت النائبة مها عبد الناصر، عضو مجلس النواب: على الحكومة أن تدرك حاجة الدولة إلى تنمية الصناعة بشكل حقيقي، وأن تتوقف عن دفع المستثمر إلى "أن يلف كعب داير" بين الجهات الحكومية، لمواجهة الفساد المستشري في استخراج التراخيص الصناعية، في ظل قيود قاسية، وعدم تنفيذ "رقمنة" الأعمال، الأمر الذي يؤدي إلى تحكم صغار الموظفين في اتخاذ القرار، ومع غياب الرقابة، يفتح باب الرشى التي تعجز الشركات الدولية عن رصدها في دفاتر حساباتها، خوفاً من الملاحقة القانونية، فتضطر إلى تقليص أنشطتها أو الهرب للخارج.
وشكا مستثمرون أيضاً من غياب نظام موحد للتعامل مع المستثمرين وتعدد الجهات واللوائح والقرارات والقوانين الحاكمة لمناطق التنمية الصناعية، وعدم تحديث المعلومات التي يصدرها رؤساء الهيئات، بما يتيح للموظفين القدرة على التلاعب بحاجة المستثمرين. وأشار أحد المستثمرين إلى تدخل موظفين في تعديل الشروط الفنية لصناعات دقيقة، ما أدى إلى عدم تشغيل نظام آلي لمواجهة الحريق بأحد المصانع بمدينة 6 أكتوبر، الأمر الذي سبّب احتراق عامل عند نشوب حريق، ومرت الكارثة دون أن يعاقب الموظف المتعنت على جريمته.
أشارت الدكتورة منى الجرف، الخبيرة الاقتصادية، إلى ضرورة إعادة الحكومة النظر في منح الرخص الذهبية التي أقرها رئيس الوزراء أخيراً للمشروعات المقامة بعد عام 2018، والتي تحرم المشروعات القائمة قبل هذه الفترة وترغب في التوسع، المميزات الجديدة، حتى تحولت الرخصة الذهبية إلى مشكلة، قائمة على التمييز غير المبرر بين الأنشطة الصناعية.
وكشفت المناقشات عن عدم وجود أرقام واقعية للناتج الصناعي ومستهدفات الحكومة من الصناعة، وتحديد أسعار الأراضي وفقاً لأهواء المسؤولين وليس طبقاً للقيمة الحقيقية أو وفقاً لسعر المرافق، بما يساهم في انتشار سماسرة الأراضي، والبيروقراطية في توزع الأراضي، دون مراعاة أولوية الأعمال، ويسمح بانتشار الفساد الإداري والرشوة، وأن تتحول الأراضي الصناعية إلى سلعة للمتاجرة بها، دون أن تحقق العائد المرجو من الدولة بأن تتحول الصناعة إلى قاطرة للاقتصاد.
وأكدت هدى الميرغني، مستشارة رئيس اتحاد الصناعات المصرية، وجود نقص شديد في الأراضي الصناعية المطروحة والأراضي المرفقة، مشيرة إلى أن ما يُطرَح من أراضٍ وفقاً لتصريحات الحكومة حالياً، يقتصر على قطع الأراضي التي سُحبَت من قبل، وليست أراضي جديدة.
وأكدت الميرغني أن إنهاء إجراءات الرخص الصناعية ما زال يستغرق نحو 8 أشهر لاستيفاء المستندات المطلوبة، داعية في الوقت نفسه لإيجاد حل لمشكلتين أساسيتين تتمثلان بالمحليات والمجتمعات العمرانية، حيث يتطلب أي تعديل أن يتم على العقد الأصلي وهذا يستغرق أشهراً، في حين أن هيئة التنمية الصناعية هي المنوط بها إصدار التراخيص.
وانتقد محمود سراج، عضو مجلس إدارة اتحاد الصناعات، مبالغة الهيئة في تسعير الأراضي الصناعية بشكل كبير، بما يعوق نمو الصناعة، في وقت تعتبر الحكومة زيادة الصادرات الصناعية مسألة حياة أو موت للاقتصاد المصري.
واستشهد هشام كمال، رئيس جمعية دعم وتنمية مستثمري الصناعات الصغيرة بتعنت أحد الموظفين، ما أدى إلى وقف إحدى الشركات عن التصدير إلى الدول العربية، وسعي تلك الأسواق لنقل صناعته إليها، لجودة المنتج، داعياً إلى أن تكون مدة الرخصة الصناعية 5 سنوات أسوة بالسجل الصناعي، وليس سنة واحدة. وانتقد محمد شكري عضو اتحاد الغرف الصناعية، عدم تفعيل قانون تيسير إجراءات التراخيص الصناعية، مطالباً بضم الرخصة والسجل الصناعي في ورقة واحدة لاحتوائها على ذات المستندات.
وقالت الدكتورة عبلة عبد اللطيف، المديرة التنفيذية، ومديرة البحوث في المركز، إن المشكلة الرئيسية تتمثل بأن كل جهة تعمل بمفردها، بما يتطلب إصلاح المنظومة بالكامل، عبر إصلاح مؤسسي عميق.
وكان المركز المصري للدراسات الاقتصادية قد عقد، أمس الأول، ندوة موسعة حول المشاكل التي تواجه المستثمرين المتعاملين مع الهيئة العامة للتنمية الصناعية والحلول المقترحة في ضوء تراجع تنافسية مصر عالمياً في جذب الاستثمار الصناعي الأجنبي والاستثمار المحلي، وضعف الأداء الصناعي والتصديري لمصر. وطالبت عبد اللطيف بأن تتولى هيئة التنمية الصناعية سرعة التحرك لإطفاء مشاكل القطاع الصناعي، مشيرة إلى أن الوقت يمر في غير صالح الدولة، وبينما تلجأ الحكومة إلى شركات سعودية وإماراتية تساعدها، في إنقاذ المشروعات الصناعية، لا تدرك أن القائمين على تلك المشروعات من الخبراء المصريين.
وقال المهندس محمد عبد الكريم، رئيس هيئة التنمية الصناعية، إن الرسوم التي تحصل لحساب الهيئة من إجمالي التكاليف المعيارية لا تتخطى 1.7% من إجمالي التكاليف فى المشروعات الكبيرة، وتصل إلى 10% من إجمالي التكاليف المعيارية للمشروعات الصغيرة. وأشار إلى أن رسوم التراخيص لمشروع كبير يصل إلى 5 ملايين جنيه، نصيب هيئة التنمية الصناعية منها 70 آلاف جنيها فقط، في حين أن النسبة الأكبر من هذه الرسوم يحصل لصالح هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة التي تصل نسبتها من الرسوم إلى نحو 69%.
وحول مشكلات طرح الأراضي، أوضح عبد الكريم أنه ستُطرَح الأراضي الصناعية على الخريطة الاستثمارية إلكترونياً، ويُبسَّط النموذج الخاص بطلب الأراضي، وسيكون التخصيص وفق معايير تتعلق بالتوسع، وأن يكون المنتج قابلاً للتصدير والمشروعات كثيفة العمالة، مشيراً إلى وضع 84 فرصة استثمارية صناعية متكاملة على الخريطة الاستثمارية، تشمل معلومات الموانئ المربوطة بقطعة الأرض، والفرصة الاستثمارية، ومساحة الأرض، وسعرها وفقاً لقيمة الترفيق فقط، دون مزادات على الأراضي، وتسريع إجراءات التخصيص التي تجري بالإخطار خلال 5 أيام، والمشروعات عالية المخاطر خلال 20 يوماً.