تسبَّبت العقوبات الغربية التي فُرضت على روسيا بعد غزوها لأوكرانيا في إحداث قلاقل في أسواق الطاقة العالمية، حيث اقترب سعر برميل خام برنت بحر الشمال من ملامسة عتبة الـ 140 دولاراً كما حدث يوم 7 مارس الماضي، وهناك من توقع زيادة السعر إلى 200 دولار وربما أكثر في حال حظر النفط الروسي كلية من قبل التحالف الغربي.
وعلى إثر ذلك سارعت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، اللتان قررتا حظر واردات النفط الروسي، لإقناع حلفائهما التقليديين بفتح صنابير النفط بأقصى طاقتها حتى تحصل الأسواق العالمية على إمدادات كافية وتنخفض أسعار النفط.
لكن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لم يبد أي التزام في هذا الشأن، بل ويحاول استغلال فرصة عطش الغرب النفطي لانتزاع ما أمكنه من الاعترافات والتنازلات والمكاسب السياسية والاقتصادية من أجل تثبيت نفوذه وترسيخ مكانته.
ولي العهد السعودي يحاول استغلال فرصة عطش الغرب النفطي لانتزاع ما أمكنه من الاعترافات والتنازلات والمكاسب السياسية والاقتصادية من أجل تثبيت نفوذه
يدرك الرئيس الأميركي جو بايدن في قرارة نفسه أنّ بن سلمان متمسِّك هذه المرّة بسياسة ليّ الذراع، ولن يتراجع عن التزام بلاده باتِّفاق "أوبك بلاس" النفطي طويل الأمد مع روسيا، إلا إذا حصل على ما يكفي من التنازلات من البيت الأبيض.
فقد ضاق ولي العهد السعودي الشاب ذرعاً بالرئيس بايدن الذي يرفض التحدُّث إليه بشكل مباشر، ووصف السعودية بأنّها "منبوذة" خلال حملته الرئاسية، وإعلانه مراراً وتكراراً عن رغبته في التراجع عن علاقات سلفه دونالد ترامب المريحة مع المملكة.
وكلما طال أمد الحرب الروسية - الأوكرانية، ازداد إصرار ولي العهد السعودي على وضع حدٍّ لغطرسة بايدن الذي يرغب بمعاقبته على سجلِّه في حقوق الإنسان ليغلق أفواه المعارضين في الكونغرس، ويسعى لضمان النفوذ في أكبر منطقة مصدِّرة للطاقة في العالم في آن واحد.
كان عزوف بن سلمان عن تلبية طلب بايدن زيادة الإنتاج النفطي مُتوقَّعاً أيضاً لأسباب أخرى، حيث لا يخفى على أحد أنّ السعودية غير مستعدَّة للدخول في التزامات تحرمها من التمتُّع بارتفاع سعر النفط الكفيل بتعويضها عن الأضرار الاقتصادية والخسائر المالية التي مُنيت بها جرّاء جائحة كورونا على مدار أكثر من عامين.
فقد أشارت وكالة "بلومبيرغ" الأميركية إلى أنّ عائدات السعودية من النفط ستتجاوز 300 مليار دولار في نهاية العام الجاري 2022 إذا حافظ برميل الخام على معدلات أسعاره فوق الـ 80 دولاراً، خاصة وأنّها تنتج في المتوسِّط 10.2 ملايين برميل يومياً، حيث يمكن للمملكة، في ظلّ استمرار الأوضاع الحالية، أن تنعش خزائنها بعائدات نفطية ضخمة لم تشهدها منذ ثماني سنوات، وتمضي قدماً في تجسيد رؤية 2030 والتحوُّل إلى مركز لوجستي مهمّ في المنطقة.
"بلومبيرغ": عائدات السعودية من النفط ستتجاوز 300 مليار دولار في نهاية 2022 إذا حافظ النفط على معدلات أسعاره فوق الـ 80 دولاراً
يشعر ولي العهد بن سلمان أنّ عليه الإسراع باقتناص الفرصة لتركيع بايدن من خلال المساهمة في ارتفاع أسعار النفط التي تؤدِّي بدورها إلى تأجيج التضخّم وزيادة أسعار الوقود، وبالتالي وضع شعبية الحزب الديمقراطي على المحك قبيل انتخابات التجديد النصفي التي أثبتت، على مرّ التاريخ، تأثيرها الكبير على سلوك الناخبين.
وليس ببعيد أن تُسلَّم السيطرة على الكونغرس إلى الجمهوريين إذا تشبَّث ولي العهد السعودي بموقفه وازداد إصراراً هو وحلفاؤه على دفع أسعار الوقود إلى مستويات قياسية أخرى أعلى بكثير مما هي عليه الآن، لا سيَّما وأنّه يعلم تماماً بقلّة حيلة بايدن الذي يعلم بدوره بأنّ اللجوء إلى سحب كميات من احتياطي النفط الاستراتيجي في الولايات المتحدة (SPR) سيخفِّض الأسعار بشكل مؤقَّت فقط.
والأمر سيان بالنسبة لخيار حظر صادرات النفط الخام الأميركي الذي سيرتدّ عكسياً على صناعة النفط الأميركية وسيساهم في تقليص الإنتاج ورفع الأسعار مجدَّداً بدلاً من تخفيضها، ليبقى بعد ذلك أمامه محاولة بائسة أخرى تتمثّل في إحياء مشروع قانون "عدم وجود كارتلات لإنتاج وتصدير النفط" المعروف باسم "نوبك NOPEC" الذي يسمح للحكومة الأميركية بمقاضاة أعضاء منظمة أوبك بدعوى التلاعب بسوق الطاقة سعياً للحصول على تعويضات بمليارات الدولارات.
والملفت أنّ هذا القانون يواجه عدّة معارضات ووابلاً من الانتقادات داخل الولايات المتحدة نظراً لمساهمته في إغراق السوق بالنفط، ودفع الأسعار إلى الانهيار وعواقبه الوخيمة في الولايات الرئيسية المنتجة للنفط في الولايات المتحدة مثل تكساس وبنسلفانيا.
لم يرضخ ولي العهد بن سلمان لضغوط بايدن لضخّ المزيد من النفط في الأسواق العالمية نظراً لتلاشي مفعول المظلّة الأمنية الأميركية، وتعرُّض بلاده لهجمات الحوثيين المدعومين من إيران، وعدم رغبة أميركا بتقديم الدعم العسكري الحقيقي للسعودية لتمكينها من مواجهة التهديدات القادمة من اليمن، إضافة إلى قيامها بشطب الحوثيين في اليمن من قائمة الإرهاب.
ولم تُخْفِ المملكة انزعاجها من لعب بايدن على الحبلين وتحديداً من خلال سعيه الحثيث لإحياء الاتِّفاق النووي لعام 2015 دون الاكتراث بمعالجة مخاوفها من الهجمات بالصواريخ والطائرات المسيّرة العابرة للحدود التي يشنُّها وكلاء إيران انطلاقاً من اليمن.
السعودية تعلن عدم تحمُّلها مسؤولية أي نقص نفطي يحدث في الأسواق العالمية في ظلّ استهداف هجمات الحوثيين المدعومين من إيران لمنشآتها النفطية
فقد أعلنت السعودية يوم 20 آذار/ مارس 2022 تعرُّضها لهجمات الحوثيين العدائية والتخريبية التي استهدفت منشآت لشركة أرامكو النفطية، من بينها محطة لتوزيع المنتجات البترولية في إقليم جازان بجنوب المملكة ومعمل للغاز الطبيعي ومصفاة "ياسرف" في مدينة ينبع المطلة على البحر الأحمر.
وعلى إثر ذلك صرَّحت المملكة يوم 21 آذار/مارس عدم تحمُّلها مسؤولية أي نقص نفطي يحدث في الأسواق العالمية في ظلّ استهداف هجمات الحوثيين المدعومين من إيران لمنشآتها النفطية، مُوجِّهة بذلك رسالة للغرب، في هذا التوقيت البالغ الحساسية، مفادها أنّ استمرار الإمدادات النفطية سيكون مشروطاً بردع الحوثيين ومن يقف وراءهم.
وما لبثت المملكة أن أحصت خسائرها جرّاء تلك الهجمات حتى باغتها الحوثيون يوم 25 آذار/مارس بـ 16 هجوماً استهدف منشآت تابعة لشركة أرامكو في مناطق جيزان وظهران الجنوب وأبها وخميس مشيط.
خلاصة القول، يستخدم ولي العهد بن سلمان النفط كورقة ضغط على الرئيس الأميركي بايدن لثنيه عن اتِّخاذ قرارات تضرّ بالمملكة وحثِّه على تقديم تنازلات واعترافات تكرِّس نفوذه، وهو السلاح ذاته الذي استخدمه الملك فيصل بن عبد العزيز لأول مرّة في 17 أكتوبر/تشرين الأول 1973 للوقوف في وجه الدعم الغربي لإسرائيل.
والحقيقة التي ينبغي إدراكها واستيعاب مدلولاتها هي أنّ أميركا لن تتردَّد في اشعال فتيل الحروب المدمِّرة والانخراط في الاغتيالات وحياكة المؤامرات والمؤامرات المضادّة عندما ترى أنّ مصالحها الحيوية والاستراتيجية أصبحت محلّ مساومة من قبل الدول العربية.