البنوك الحكومية في مصر تجذب الأموال بشهادات ادخار مغرية... والقطاع الخاص يئن من الفائدة الجامحة
اتهم مستثمرون ومحللون ماليون الحكومة المصرية بدفع البنك المركزي نحو سياسات نقدية متشددة، تدفع سعر الفائدة نحو معدلات ارتفاع غير مسبوقة، وتهدد دخول الاقتصاد في مرحلة ركود تضخمي، ومعها يهدد بقاء القطاعات الإنتاجية والخدمية، ويدفع بالغلاء إلى معدلات هائلة، ويزيد من تدهور قيمة الجنيه.
أشار خبراء إلى أن رفع سعر الفائدة على ودائع البنوك نهج مستمر منذ 10 سنوات، ولم يكبح التضخم المتصاعد إلى معدلات قياسية بلغت 40% في 2023، مع ارتفاع قيمة الدولار من نحو 7.5 جنيهات عام 2014 إلى قرابة 31 جنيها رسمياً و55 جنيهاً في السوق الموازية بداية العام الجاري 2024، ما أثر في قدرة المصنعين على توظيف السيولة المتراكمة لدى البنوك في الإنتاج والاستثمار بتوسعة مشروعاتهم القائمة، وحالة غلاء تدفع المصريين إلى فقر مدقع.
طرح بنكا الأهلي المصري ومصر التابعين للدولة، أكبر بنكين في البلاد، شهادتي ادخار بعائد قياسي مرتفع نهاية الأسبوع الماضي، لمدة عام واحد يصرف في نهاية المدة بنسبة 27%، وأخرى بعائد شهري 23.5%. وقالت مصادر مصرفية إن شهادات الادخار الجديدة جذبت نحو 100 مليار جنيه (3.23 مليارات دولار) خلال 96 ساعة من عمليات الطرح، ناتجة عن إعادة استثمار المودعين المبالغ المدخرة بشهادات انتهت مدتها، ذات عائد بنسبة 25%، أو جزء كبير منها.
عادة ما يفضل أصحاب الشهادات من الأفراد الاحتفاظ بقيمة المدخرات، للحصول على عائد شهري يساعدهم في مواجهة التضخم ونفقات المعيشة، يواكب ذلك انضمام صناديق التأمين الخاصة ومؤسسات عامة وأخرى غير ربحية، إلى المستفيدين من ارتفاع قيمة العائد على الشهادات، مع وجود قوانين تحتم توظيف جزء كبير من أموال الصناديق، في مدخرات سائلة، بعيدة عن المضاربة في البورصة أو الاستثمار في شراء أصول.
يشير سمير رؤوف خبير التمويل والاستثمار في تصريح لـ"العربي الجديد"، إلى أن الشهادات ذات العائد المرتفع تجذب عادة أصحاب الدخل الثابت والباحثين عن عائد ثابت، خاصة ذوي المدخرات ممن أحيلوا للتقاعد، والأسر التي لديها أصول مالية ولا تستطيع التصرف أو القدرة على المخاطرة، بتوجيه أموالها إلى مشروعات صناعية أو خدمية بديلة.
استهدف طرح الشهادات مرتفعة العائد منع تسرب نحو 560 مليار جنيه من البنوك العامة الكبرى الثلاثة، الأهلي ومصر والقاهرة، قيمة شهادات ادخار بمتوسط عائد 25%، طرحت في يناير/كانون الثاني 2023، واستحقت الدفع في الفترة من الخامس من الشهر الجاري إلى أول فبراير/ شباط المقبل. وتوقع محمد الإتربي رئيس البنك الأهلي في تصريحات صحافية أن يدفع المدخرون بنحو 500 مليار جنيه في الشهادات الجديدة، خلال الشهر، باعتبارها مرتفعة العائد.
ويقول تامر سحاب خبير الاستثمار، إن لجوء البنوك العامة إلى رفع سعر الفائدة يعد رسالة من الحكومة لتوجيه المواطنين إلى ضخ أموالهم في البنوك، في وقت يعاني القطاع الصناعي والزراعي من ندرة الاستثمارات، معتبرا أن "هذه تصرفات غير منطقية، تؤدي إلى نتائج غير منضبطة، في مواجهة جموح معدلات التضخم".
يوضح سحاب في تصريح لـ"العربي الجديد" أن رفع قيمة الفائدة على شهادات الادخار لتصل إلى نحو 27%، في مسار مستمر من رفعها عدة مرات على مدار السنوات الماضية، لم يؤد إلى كبح التضخم الذي بلغ معدلات قياسية تاريخية، إلى نحو 40%، ما يتطلب إجراءات عملية لضبط الاقتصاد بالكامل.
يدعو خبير الاستثمار إلى حزمة إجراءات اقتصادية شاملة تشجع أصحاب المدخرات والخبرات على الاستثمار، بدلاً من دفع الأموال ناحية البنوك، في وقت ينافس الذهب وتجارة العملة واكتناز السلع الأساسية والمعمرة معدلات الربحية التي تدفعها البنوك.
ويؤكد أن مصر في حاجة ماسة إلى زيادة الإنتاج، الذي يعتمد بالأساس على توفير المال الرخيص والتسهيلات الحكومية التي تمكن من مكافحة التضخم الذي بدأ من الخارج ويتفاقم محلياً، مع استمرار نفس الأسباب المؤدية إليه.
يشير محللون إلى وجود سيولة تقدر بنحو 3 تريليونات جنيه معطلة داخل البنوك، تتعرض للتآكل متأثرة بزيادة التضخم الحقيقي عن معدلات الفائدة المصرفية، ما يعرض قيمة الجنيه إلى المزيد من التراجع، ويدفع الاقتصاد نحو دائرة مغلقة تبدأ بالتضخم يتبعها رفع فائدة، وتدهور بالجنيه، يرفع السلع ويهدد الاستثمار الصناعي والعقاري والزراعي، وغيره من القطاعات الحيوية التي تظل قاطرة التنمية بالدولة.
وفرض البنك المركزي على جميع البنوك، ألا تقل الفائدة على القروض المضمونة، عن 24% اعتباراً من مطلع الأسبوع الجاري، للحد من تجارة الفائدة، عبر بيع أو اقتراض أصل بسعر فائدة منخفضة، والتي تستخدم عادة في تمويل شراء أصول صناعية وعقارية.
ويدعو محللون الحكومة إلى تشجيع المواطنين على التوجه للاستثمار في بورصة الأوراق المالية، مع توافر عروض لأوراق مالية جديدة جاذبة للمستثمرين والأفراد، والتوسع في أذون الخزانة التي توفر السيولة لتمويل المشروعات العامة، مع عدم تحميل البنوك أعباء الزيادة في قيمة الفائدة، حيث يسهل بيعها في أي وقت دون تعريض حاملها لأية خسائر، وكبديل لشهادات الادخار.
وتدهورت أنشطة شركات القطاع الخاص غير المنتج للنفط، مع نهاية 2023، حيث أدى تباطؤ الطلب إلى انخفاض حاد في النشاط والطلبات الجديدة، مدفوعاً بضعف الجنيه والنقص المستمر في العرض.
ووفق مؤشر مديري المشتريات، الذي أصدرته مؤسسة "ستاندرد آند بورز" لشهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، واجهت الشركات تضخما سريعا في تكاليف مستلزمات الإنتاج وتراجعاً في إنفاق العملاء، مع بقاء القطاع غير النفطي في منطقة الانكماش للشهر الـ37 على التوالي.
يثير تسارع معدلات الانكماش مع انخفاض الإنتاج والطلب مخاوف من أن يتأثر القطاعان الصناعي والخدمي بعدم القدرة على توفير مستلزمات الإنتاج والتضخم، وبالتالي دخول النشاط الاقتصادي في ركود تضخمي، يشل حركة الاقتصاد خلال الفترة المقبلة.
ويؤكد مستثمرون أن زيادة الأسعار تضغط على المستهلكين والشركات والمستثمرين في آن واحد، مدفوعة بتراجع قيمة العملة وشح الدولار، بينما تدفع زيادة الفائدة المصرفية إلى ارتفاع تكاليف التمويل وتدبير مستلزمات الإنتاج، لتبقي المستثمرين وأصحاب المشروعات تحت ضغط شديد، وتضعهم بين شقي رحى المحافظة على الإنتاجية، مع رفع الأسعار أو خفض معدلات الإنتاج، بما يؤثر على تكلفة التشغيل والإنتاج، مشيرين إلى توجه البعض إلى اكتناز ما لديه من مخزون سلعي خشية صعوبة تدبير البدائل أو أملا في الحصول على عائد أعلى مع توقع زيادة أسعارها بالأسواق.
ويحذر مستثمرون من عدم قدرة القطاع الخاص على تلبية الخطط الحكومية بقيادة الاقتصاد في المرحلة المقبلة، والتي تستهدف زيادة معدلات النمو إلى 5%، خلال العامين المقبلين، بينما تدفع معدلات التضخم النمو للانخفاض إلى 3%، وفقا لتوقعات صندوق النقد، بما يزيد من أزمة الاقتصاد الذي سقط في دوامة سياسة تشدد نقدي تعتمد على مواجهة التضخم، عبر زيادة أسعار الفائدة، وتخفيض العملة، بما يصب في مصلحة الدولار والعملات الصعبة التي يزداد الإقبال عليها مع ارتفاع حاجة الدولة للواردات ومواجهة أعباء الديون.
وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، يتوقع أن يصل سعر صرف الدولار إلى 36.83 جنيهاً رسمياً خلال العام المالي المقبل 2024/2025 الذي يبدأ في الأول من يوليو/تموز من العام الجاري.
وتجري بعثة فنية من خبراء صندوق النقد مشاورات مع الحكومة نهاية هذا الشهر، بعد 10 أشهر من التوقف، عقب خلافات بين السلطات والصندوق حول عدم التزام الحكومة بتحرير سعر الصرف، وخفض قيمة الجنيه، وبرنامج طرح الأصول العامة للبيع، وتزايد معدلات الدين الخارجي.