قبل أكثر من نصف قرن كانت مصارف لبنان مثالاً للقوة المالية وحداثة الأنشطة والخدمات والحرفية مقارنة بنظيرها في العديد من دول المنطقة، وكان لهذه المصارف وجود ملموس في الخارج، إذ حضرت في نحو 30 دولة، منها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وسويسرا وكندا وبلجيكا وأستراليا وقبرص، وكذا في بعض الدول العربية مثل دول الخليج والجزائر ومصر والعراق والأردن وسورية والسودان.
أما الآن فقد تحولت مصارف لبنان إلى قطاع بائس مهدد بالإفلاس والانهيار في أي لحظة، يعاني من الضمور في الخدمات، طارد للكوادر البشرية، ينسحب من الخارج ويتقلص في الداخل، بات لديه معارك مفتوحة مع أطراف عدة؛ منها المودعون وأصحاب المدخرات، مصرف لبنان المركزي الذي أدخله في معارك لا تنتهي مع المدخرين إذ يفرض عليه قيوداً شديدة تُلجم أنشطته وتحد من تحركاته، خاصة على مستوى الصرف النقدي وتلبية احتياجات العملاء من السيولة النقدية.
تحولت مصارف لبنان إلى قطاع بائس مهدد بالإفلاس والانهيار، يعاني من ضمور الخدمات، وطرد الكوادر، لديه معارك مفتوحة مع أطراف عدة
والأخطر الدخول في معركة شديدة مع القضاء الذي بات يستهدفه على خلفية مزاعم بارتكابه مخالفات مالية عدة، والامتناع عن صرف مستحقات المدخرين والتورط في جرائم مالية منها الفساد وغسل الأموال القذرة.
وبعد أن كان الاقتراب من البنوك اللبنانية في السابق خطاً أحمر، سواء من قبل السلطة السياسية والنخب الحاكمة أو حتى من قبل السلطة القضائية، بات القطاع يتعرض لضربات مميتة وملاحقات قضائية، بل بات في قلب المعركة الانتخابية الحالية، وهنا يكمن الخطر، فقد اقترب من المعارك السياسية والطائفية، وبات هدفاً للقضاء الذي يلاحقه بشكل شبه يومي.
خلال الفترة الماضية تلقت مصارف لبنان ضربات موجعة، ضربات بسبب بيئة العمل الصعبة وغير المواتية التي يعمل بها والتي دفعتها لتقليص حجم أنشطتها وفروعها وموظفيها وتوسعاتها الداخلية والخارجية، فقد أغلقت المصارف أكثر من 160 فرعاً خلال ثلاثة أعوام "2019-2021"، وبما يعادل 15% من وحداتها المصرفية.
وسرّحت نحو خمسة آلاف من الموظفين وبما يعادل 23% من إجمالي القوة العاملة في القطاع، وتهاوت أنشطتها المصرفية، سواء على مستوى منح الائتمان أو تلقي الودائع التي تجاوزت 150 مليار دولار في عام 2018.
ودليل ذلك تراجع القروض المقدمة للقطاع الخاص من 59 مليار دولار إلى أقل من 30 مليار دولار في نهاية شهر نوفمبر الماضي.
كما باعت بنوك لبنانية عدة وحداتها وفروعها المملوكة لها خارج البلاد، مثلما حدث مع بنك لبنان والمهجر "بلوم" في مصر، وقلصت نشاطها بشدة في بلدان أخرى منها قبرص وسورية ومنطقة الخليج.
على مستوى بيئة العمل غير المواتية أيضاً تخوض البنوك اللبنانية معارك يومية مع عملائها الذين يجدون صعوبة في التعامل معها والحصول على خدماتها، ليس في الحصول على قروض وتمويل مشروعات استثمارية وفتح اعتمادات لاستيراد سلع رئيسية مثل الأغذية والأدوية والمواد الخام والسلع الوسيطة فحسب، بل في استرداد مدخراتهم من الأصل، في ظل القيود المفروضة على عمليات السحب النقدي وندرة السيولة، خاصة الدولارية.
البنوك تسرّح نحو خمسة آلاف من الموظفين وبما يعادل 23% من إجمالي القوة العاملة في القطاع، وتشهد تراجع حاد في أنشطتها المصرفية
فمنذ نهاية 2019، وحتى قبل إعلان الدولة اللبنانية رسمياً إفلاسها وتوقفها عن سداد الديون الخارجية المستحقة عليها في مارس 2020 تفرض المصارف قيوداً وسقوفاً قاسية على عمليات السحب النقدي سواء بالدولار أو بالعملة المحلية، الليرة، وذلك إثر أزمة اقتصادية طاحنة أدت إلى حدوث انهيار مالي في البلاد، وتهاوٍ في السيولة، وتراجع حاد في احتياطي النقد الأجنبي لدى مصرف لبنان المركزي.
عمّق من تلك الأزمة تهاوي ثقة العملاء، سواء المودعين أو رجال الأعمال والمستثمرين، أو البنوك المراسلة في الخارج.
كما تخوض البنوك معركة أخرى في منتهى الخطورة، وهي معركة السمعة والتي فقدتها بالفعل في ظل زيادة المخاطر والضربات والطعنات والشكوك التي لا تحيط فقط بذمة المساهمين أصحاب هذه المصارف وحائزي أسهمها، أو القائمين على إدارة القطاع المصرفي، بل بذمة أهم مصرفي في البلاد، وهو رياض سلامة، حاكم (محافظ) مصرف لبنان، والذي تطاوله اتهامات ومزاعم جسيمة منها غسل أموال واختلاس مئات الملايين من الدولارات، سواء من قبل القضاء اللبناني أو المحاكم الدولية في العديد من الدول الأوروبية وغيرها، ومنها سويسرا وفرنسا وبريطانيا ولوكسمبورغ وليختنشتاين غيرها.
يكفي هنا الإشارة إلى أنّ مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون، أمرت مرات بإحضار رياض سلامة (71 عاماً) للمثول أمامها في دعاوى بتهم الإثراء غير المشروع، وتبييض الأموال، وتبديد المال العام، وسوء إدارة البنك المركزي والاحتيال، بل في يناير الماضي، أصدرت القاضية قراراً بمنعه سلامة من السفر.
أما أخطر معركة تخوضها البنوك اللبنانية فهي مع القضاء، فمصرف فرانس بنك اللبناني أغلق فروعه الخمسين بعد صدور أمر قضائي بتجميد الأصول والأموال والفروع التابعة له وختمها بالشمع الأحمر.
ونهاية الأسبوع الماضي صدر قرار قضائي بتوقيف شقيق محافظ مصرف لبنان رياض سلامة بتهمة الفساد والتواطؤ بجرم الإثراء غير المشروع.
وفي وقت سابق صدر قرار عن القاضية غادة عون يقضي بمنع سفر رئيس مجلس إدارة بنك "الاعتماد المصرفي" وتجميد أصول البنك، مع وضع إشارة منع تصرف على أسهم البنك وحصصه وعقاراته وسياراته في جميع الشركات التجارية.
مصارف لبنان باتت على حافة الانهيار، في ظل تهاوي السمعة والسيولة، وزيادة المخاطر، وإغلاق فروع والحجز على أصول، ومنع سفر رؤساء مجالس إدارات بنوك كبرى
وقبلها بأيام أصدرت القاضية غادة عون أيضا قراراً يقضى بالحجز على أصول 5 بنوك هي بيروت، عودة، لبنان والمهجر، البحر المتوسط، سوسيتيه جنرال، مع وضع إشارة منع تصرّف على العقارات، والسيارات والمركبات، والأسهم والحصص في جميع الشركات التجارية، العائدة للبنوك، وكذا على العقارات والسيارات والمركبات والأسهم والحصص في جميع الشركات التجارية العائدة لرؤساء مجالس وأعضاء مجالس إدارات هذه المصارف.
ببساطة، مصارف لبنان باتت على حافة الانهيار، في ظل تهاوي السمعة والسيولة، وزيادة المخاطر، وإغلاق بنوك والحجز على أصول أخرى، ومنع سفر رؤساء مجالس إدارات مصارف كبرى.
وقديماً كان الاقتراب من البنوك بمثابة خط أحمر، باعتبار أنّه قطاع بالغ الحساسية، أما الآن فإنّ أيّ مودع يستطيع وبحكم قضائي سريع إغلاق بنك في حجم فرنسبنك، ومنع سفر شخص بمكانة رياض سلامة.
هذا أمر لا يشكل خطراً فقط على القطاع المصرفي اللبناني والاقتصاد ومالية البلاد، بل يشكل خطراً على الدولة اللبنانية نفسها، لأنّ انهيار القطاع المصرفي يهدد الدولة بقوة.
وهذا ربما يفسر التحرك السريع من قبل النخب الحاكمة في البلاد، خاصة مع إعلان جمعية مصارف لبنان دخول المصارف في إضراب شامل غدا الاثنين وبعد غد الثلاثاء احتجاجاً على ما وصفته بتعسف بعض القرارات القضائية والإدارية التي يفتقر بعضها إلى الحد الأدنى من السند القانوني والمصلحة العامة.
البنوك في خطر، والبداية تكمن في إقصاء رياض سلامة، فثلاثة عقود تكفي، كما بات عبئاً على القطاع، كما يجب إبعاد البنوك عن خلافات السياسة والأحكام القضائية السريعة
البنوك اللبنانية في خطر، والبداية تكمن في إقصاء رياض سلامة عن منصبه، فثلاثة عقود تكفي، كما أنّه بات عبئاً على القطاع المصرفي، كما يجب إبعاد البنوك عن خلافات السياسة والأحكام القضائية السريعة.
وفي المقابل فإنّ على البنوك اللبنانية ألّا تتستر على فساد حفاظاً على سمعتها، وألّا تستخدم المودعين رهينة في معركتها مع الآخرين بمن فيهم السلطة القضائية.