المواجهة والصدام قادمان في مصر

23 ديسمبر 2022
لطالما كانت السياسات السيئة سبباً في تأجيج الاحتجاجات الشعبية (فرانس برس)
+ الخط -

أجلت وزارة المالية المصرية العمل بنظام الفاتورة الإلكترونية، على أعضاء النقابات المهنية، إلى نهاية أبريل المقبل.

خسرت الوزارة ملايين الجنيهات التي دفعتها، لنشر إعلانات تحذر فيها ملايين المحامين والأطباء والمهندسين والاستشاريين من أرباب المهن الحرة، على مدى شهر كامل، من الامتثال لقرارها الذي حددته بمنتصف ديسمبر/كانون الأول الحالي.

لم تهتم الوزارة بالتكاليف ولا سرعة العائد، قدر مواصلة العناد، وفرض الإتاوات التي تغطي مصروفات الموازنة العاجزة عن مواجهة النفقات السنوية للحكومة.

انتفاضة المحامين، ومن خلفهم الأطباء والصيادلة والمهندسون، أجبرت الحكومة على تأجيل صدام ساخن مع أرباب المهن، في وقت تحتاج فيه إلى التهدئة، مع انتشار نيران تحت الرماد في أنحاء البلاد. الناس مخنوقة من حالة الغلاء الفاحش، والتدهور الشديد في قيمة الجنيه والدخل.

الشركات دخلت في ركود في العرض والطلب، ومن معه المال لا يرغب في الاستثمار، في مناخ أصبح طاردا للمستثمرين.

اعتبرت المالية قرار التأجيل حلا مؤقتا، مع إصرار عنيد بأن تنفذه خلال العام المقبل، آملة في أن "تنجح في إقناع الرافضين من خلال محاورات فنية مع مأموري الضرائب".

اعتادت الحكومة أن تمد يدها في جيوب الناس، دون أن تلقى أية معارضة منهم أو تلتفت لأناتهم، لذلك تمضي إلى حيث قضت، ولو بعد حين. لم تفهم سر الانتفاضة التي أشعلها شباب المحامين وانضم إليها شيوخهم والأغنياء منهم. الشباب غير القادر على الكسب المعقول ليعول أسره، ويمارس مهنته بكرامة، رفض أن يتحمل أعباء ضريبية، يعتبرها غير دستورية، وغير مفهومة القصد، وتضيف إليه المزيد من التضييق عليه أثناء العمل اليومي، والمزيد من الضرائب التي فرضت عليه منذ سنوات، بداية من ضريبة الدخل والقيمة المضافة والرسوم الهائلة التي تدفع بالمحاكم والشهر العقاري، عن كل حركة وورقة.

الشيوخ يشكون من كثرة الضرائب والقيود التي تفسد عليهم أعمالهم، وتدفعهم إلى تمرير تلك الزيادات على قيمة الفواتير التي يدفعها الجمهور.

لم نجد بين الأطباء والمهندسين وغيرهم من يرفض مبدأ حق الدولة في تحصيل الضرائب، خاصة أن 77% من حصيلة الضرائب العامة تأتي من الموظفين والعمال والتجار وأرباب المهن الحرة.

الناس مؤمنة بحق الوطن، في رد الجميل إليه، على شكل ضرائب للدولة ومساعدة الناس، بالتبرعات والأعمال الخيرية، لكن سوء إدارة هذه الموارد دفع الغاضبين إلى التساؤل لماذا نتحمل كل هذه الأعباء؟!

اقتصاد عربي
التحديثات الحية

أصبح لدى الشعب ثقافة البحث عن الحقوق كما تبحث الحكومة عن ضرائبها، وبينما الناس تلتزم بدفع ما تطلبه الدولة من ضرائب، وما تفرضه الأجهزة من إتاوات ورسوم منها المخالف للدستور ولا سند له بالقانون، يفشل المواطن في إثبات حقه، في مواجهة عنت السلطة.

وها قد حان وقت الحساب الجماعي على إهدار حقوق الشعب، عندما أرادت الحكومة مواجهة أصحاب المهن الحرة بضرائب يرونها غير مستحقة، وغير دستورية.

فالمواجهة لم تعد من أفراد لا حول لهم ولا قوة في مواجهة بطش المسؤولين، بل مع طوائف مهنية كبيرة العديدة واسعة الانتشار، ومؤثرة في المجتمع.

المحامون تعدادهم 700 ألف عضو، والمهندسون يقتربون من نفس العدد، والأطباء والصيادلة يزيدون عن ذلك بكثير، وما يزيد عن مليون محاسب ومئات الآلاف من الإعلاميين والاستشاريين.

الكثرة غلبت شجاعة الحكومة في فرض الإتاوات جبرا، فإذا ما تحصنت الكثرة بقوة الدستور والقانون فإن مساحة الجدل لأخذ الحق تظل واسعة، ومع زيادة المشاكل التي تواجهها السلطة، جاء التراجع عن التنفيذ الفوري أمرا حميدا.

تظل مشكلة السلطة عالقة عند توقيت التنفيذ، وليس إيمانا منها بعدالة مطالب أرباب المهن الحرة، وأدرك الغاضبون أن الحكومة لم تفهم الرسالة.

الكل يتساءل لماذا أدفع أكثر ونحن نحصل على الأقل أو لا نجني شيئا على الإطلاق؟!

يقولون: إن الضرائب التي نتحملها تفوق قدراتنا المادية، تلامس مستويات الضرائب في أوروبا والولايات المتحدة، فلماذا لا نتطور على الأقل أسوة بما يحدث بالكيان الصهيوني، الذي يثير الحروب مع عدة دول، ومع ذلك يتقدم علميا وعسكريا وماديا؟!

لماذا ندفع ضرائب ولا نجد تعليما جيدا، ولا شارعا نظيفا ولا مستشفى عاما يحافظ على صحة ودخول المواطنين؟!

يشكو الناس من أموال وقروض هائلة تنفق ببذخ على مشروعات ثبت عدم جدواها أو قيمتها، أغرقت الدولة في أزمة ديون سيطول أجلها، ومطلوب من الشعب أن يتحمل الآن عواقبها، بفرض المزيد من الضرائب، بينما الناس لم تشارك في توجيه هذه الأموال ولم تعرض عليهم أساليب الصرف.

أدخلت الأزمة المالية الناس غرفة إفاقة لما يدور حولهم من كوراث، فنبهت كل فرد لما يحاك له، فتعلم كثيرون كيف يدبرون ميزانيتهم ويبحث كل فرد عن بدائل رخيصة، يقضي بها حاجته الأساسية، بداية من الطعام والملبس والمواصلات الرخيصة وعلاج شعبي يغنيه عن الدواء مرتفع السعر، مع شح الموارد المالية، واختفاء فرص العمل، وزيادة معدلات البطالة بين الخريجين والشباب.

يعلم الناس أن الأزمة المالية ستطول وأن دخولهم تتدهور كل يوم، وقدرتهم على تحمل أعباء الحياة في تراجع.

مؤشر تراجع الدخل الحقيقي، لم يعد قاصرا على عمال اليومية، أو العمالة المؤقتة بالمصانع والشركات، ولكن ظاهرا في دخول الأطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات والنخبة، التي تدهورت بشدة ودفعت الشباب منهم إلى البحث عن عمل بدول الخليج أو الهجرة نهائيا للخارج.

تشتد الأزمة المالية ويكبر السؤال في دماغ المواطنين، وجاء الوقت المناسب ليقول الناس للحكومة كفى إسرافا، لن نسمح لكم بمد أيديكم إلى جيوبنا الخاوية لتمزقوا جيوبها لتعري الأجساد، عبر ضرائب تتعدد أشكالها، ورسوم توجه لصناديق خاصة، تنفق على بذخ المسؤولين ومشروعات غير خاضعة لأي نوع من الرقابة الشعبية.

خافت الحكومة من عودة مظاهرات الغضب وسط العاصمة القاهرة، مع رفع المحامين أصواتهم ضد المنظومة الإلكترونية، أملا في استغلال وقت مناسب لفرض إرادتها من جديد، بينما الغضب المكبوت يتصاعد، ونخشى أن تكون الحلول الوقتية دافعا ليتحول من غضب خاص إلى عام، ضد المنظومة بأسرها، وساعتها لن تجدي هرولة الحكومة بالتراجع لتقول كلمتها الأخيرة: فهمتكم.. فهمتكم.

المساهمون