وضعت الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة العديد من الشركات العالمية في ورطة غير مسبوقة، لاسيما التي انحازت إلى إسرائيل مباشرة أو التي اتخذت دولها مواقف داعمة للاحتلال، إذ باتت تتحمل فواتير باهظة لمواقفها التي تسببت في مقاطعة واسعة لأنشطتها، لاسيما في المنطقة العربية، وهو ما يمكن أن يمتد لفترة طويلة حتى بعد انتهاء الصراع.
وأظهرت حملات المقاطعة، مدى الأوجاع التي تعرضت لها الكثير من الشركات العالمية، لدرجة أن العديد منها سعى إلى تعديل مواقفه أو الإعلان عن تبرّئه من الفروع التي تعمل في إسرائيل أو التي انحازت لدولة الاحتلال في أي منطقة بالعالم، ما جعل شرائح واسعة من الشعوب تشعر بأنها في موقف قوة وتستطيع أن تؤثر في المشهد بعدما همّشتها الكثير من الأنظمة على مدار عقود طويلة في مناصرة القضية الفلسطينية.
ولعل طول أمد العدوان الإسرائيلي على غزة هذه المرة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، قد يساهم في ترسيخ المقاطعة وتغيير خريطة الأسواق في المنطقة، في مشهد أكثر وضوحاً من صراعات دولية وإقليمية انجرّت فيها الشركات العالمية إلى الانحياز، على غرار الحرب الروسية في أوكرانيا أو الصراع التجاري بين الصين والولايات المتحدة الأميركية.
وفي السابق، كان بإمكان الشركات تقسيم رسائلها في بلدان مختلفة، أو حتى تجنب التعليق على الصراع على الإطلاق. لكن في عالم الوسائط الرقمية والناشطين الاستهلاكيين، لم يعد هذا ممكناً، وفق تقرير لمجلة فورين بوليسي الأميركية نُشر على موقعها الإلكتروني، مساء السبت، مشيرا إلى أنه كلما أصبحت العلامة التجارية أكثر عالمية، زادت احتمالية تورطها في النزاعات الدولية، وزاد اختيارها أحد الجانبين، ما يجلها تدفع أثماناً لذلك، حتى لأضعف المنتجات مثل المشروبات الغازية أو الآيس كريم.
وليست هذه هي المرة الأولى التي تضطر فيها الشركات إلى السير عبر المياه الضحلة الجيوسياسية الصخرية ذات العواقب الدائمة. فقد أدى غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022 إلى حدوث توترات ودفع الشركات إلى الانحياز إلى أحد الجانبين وداعميه بشكل صارخ.
والشركات التي أمضت عقوداً من الزمن في تعزيز وجودها في روسيا إما علّقت عملياتها طوعاً في ذلك البلد أو غادرت أو واجهت ضغوطاً كبيرة للمغادرة، مع بدء فرض العقوبات الغربية على موسكو بقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
وبينما دخلت علامات تجارية غربية مثل كوكا كولا، وبيبسي، وماكدونالدز، روسيا كعلامة على ذوبان توترات الحرب الباردة، رحلت هذه العلامات بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وحلت محلها منتجات محلية الصنع.
كما تسببت مواقف الغرب من قضايا تتعلق بسياسة الصين تجاه تايوان أو حرية التعبير في تعرّض الشركات والمعلنين لخسائر باهظة.
فعندما قام داريل مور، المدير العام لنادي "هيوستن روكتس" في الولايات المتحدة، بالتغريد لدعم المتظاهرين في هونغ كونغ في عام 2019، توقف تلفزيون الصين المركزي عن عرض مباريات الدوري الأميركي لكرة السلة للمحترفين، وهو ما مثل ضربة قوية للدوري الذي يعتمد على الصين في الحصول على إيرادات دولية كبيرة، والذي يمتلك أصحاب الأندية استثمارات كبيرة في الصين.
وحتى نجم الدوري ليبرون جيمس انتقد موري لأنه لم "يطّلع على الوضع القائم". ودفع الأمر "مور" إلى تقديم استقالته من إدارة النادي في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2020.
وبينما ينظر إلى الهدنة الحالية الممتدة لبضعة أيام بين جيش الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية لتبادل الأسرى، على أنها قد تكون بداية لتهدئة أطول، فإن حرب الضغوط الاقتصادية بفعل حملات المقاطعة قد تطول، لاسيما في ظل تزايد الدعوات إلى استمرار هذه الحملات حتى بعد انتهاء الحرب.
وهناك الكثير من المواقع على شبكة الإنترنت وكذلك حسابات وسائل التواصل الاجتماعي التي تضم لائحة طويلة من المنتجات الغذائية ومستحضرات التجميل وماركات الملابس والأحذية وسلاسل المطاعم والمقاهي ومحلات السوبر ماركت المشمولة ضمن دعوات المقاطعة.
كما جرى تدشين العديد من تطبيقات الهاتف المحمول تضم قائمة بأسماء المنتجات المستهدفة من المقاطعة لمساعدة المتسوقين على التعرف عليها. كما يتداول مستخدمو منصات التواصل المؤيدون للمقاطعة قوائم لمنتجات بديلة.
ودعت حركة مقاطعة إسرائيل "BDS" إلى تكثيف وتصعيد جهود المقاطعة والمطالبة بوقف كامل للعدوان ورفع الحصار بشكل كامل عن قطاع غزة دون قيد أو شرط، مشيرة في بيان نشرته على موقعها الإلكتروني إلى ضرورة "التعطيل السلمي المدروس لنظام الهيمنة الغربية الذي يسلّح ويموّل ويحمي العدو الإسرائيلي من المساءلة".
وأضافت الحركة أن "إنهاء تواطؤ الحكومات والشركات والمؤسسات مع نظام الاستعمار والأبارتهايد الإسرائيلي الذي يمارس الإبادة الجماعية أصبح أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى"، لافتة إلى أن جهود المقاطعة "لن تقف عند هدنة إنسانية"، لاسيما أن الحصار الإسرائيلي المدعوم من الغرب والإبادة الجماعية البطيئة مستمران، إذ تعهدت إسرائيل باستئناف القصف والعدوان في وقت لاحق.
وشددت على ضرورة "مواصلة الضغط من أجل ضمان عدم عودة العالم للتعامل مع العدو الإسرائيلي وكأنه طبيعي. فهو نظام استعماري غير طبيعي، ولا بد من نبذه عالمياً على هذا الأساس، بدءاً بتكثيف الجهود نحو مقاطعته وسحب الاستثمارات منه وفرض العقوبات عليه، وإنهاء جميع الاتفاقيات التطبيعية التي أبرمتها بعض الأنظمة العربية الديكتاتورية معه".
ورغم أن "BDS" تشجع مقاطعة أي شركات تُعتبر داعمة لإسرائيل في الحرب، إلا أنها تدعو في الوقت ذاته إلى أن تركز المقاطعة على بضع شركات تعتبرها الأكثر دعما لدولة الاحتلال "لمضاعفة الأثر"، وهي شركات لها فروع في مستوطنات مقامة على الأراضي الفلسطينية المحتلة أو تستثمر في بنوك إسرائيلية وتمول مشروعات تخدم تلك المستوطنات، من بينها شركة ملابس وأحذية رياضية شهيرة ترعى اتحاد كرة القدم الإسرائيلي.
ووضعت حركة مقاطعة إسرائيل قائمة بشركات عالمية في نطاق تركيزها، وفق منشور لها في وقت سابق من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، هي "بوما" للملابس والأحذية الرياضية، وسلسلة متاجر "كارفور"، وشركة "أكسا" الفرنسية العاملة في قطاع التأمين التي تستثمر في مؤسسات مالية إسرائيلية منها بنك "لئومي"، وشركة HP، وعلامة "Ahava" لمستحضرات التجميل، و"صودا ستريم" للمشروبات الغازية.
كما جاءت "شيفرون" النفطية الأميركية ضمن القائمة ذات الولية بالنسبة للمقاطعة، و"سيمنز" الألمانية و"CAF" لتصنيع القطارات، وشركة "JCB" للحفارات، وهيونداي للمعدات الثقيلة، و"كاتربيلر" و"هيتاشي" و"فولفو"، التي يستخدم جيش الاحتلال معداتها في هدم منازل الفلسطينيين وتجريف المزارع وبناء المستعمرات الإسرائيلية.
وبالتوازي مع عزوف الكثيرين عن سلع الشركات التي ترد أسماؤها في قوائم المقاطعة، لاسيما العاملة في مجال الصناعات الغذائية والمشروبات الأكثر ارتباطاً بالأسواق الاستهلاكية في الدول العربية، سطع عدد من الشركات المحلية في العديد من الدول، والتي اتجهت لزيادة المبيعات وطرح منتجات جديدة وتأسيس خطوط إنتاج لتلبية الطلب المتزايد، ما يرسم خرائط استهلاكية وتجارية جديدة.
وفي مصر، وهي سوق استهلاكية واسعة وتعد الأكبر عربياً من حيث عدد السكان بما يصل إلى 110 ملايين نسمة، لاقت "سبيرو سباتس" لصناعة المشروبات الغازية، وهي شركة مصرية بنسبة 100%، رواجاً كبيراً خلال الأيام القليلة الماضية على صفحات التواصل الاجتماعي، حيث فاق حجم الطلب قدراتها التصنيعية، بحسب ما قال يوسف طلعت، المدير التجاري والإداري في الشركة في تصريحات صحافية.
كما رفعت حملات المقاطعة مبيعات شركات محلية عاملة في صناعة المنظفات والعطور وغيرها من المنتجات الاستهلاكية اليومية. وفي دول أخرى عدة زادت مبيعات منتجات شركات محلية كبدائل لسلع شركات ودول داعمة للاحتلال.