الليرة السورية العاجزة رغم التطبيع العربي

19 مايو 2023
محل صرافة في مدينة القاميشلي شمال شرقي سورية (Getty)
+ الخط -

مع دوران عجلة التطبيع بين النظام السوري والدول العربية يزداد وضع الليرة السورية سوءاً حيث لامس سعر الصرف في السوق السوداء حاجز 9000 ليرة أمام الدولار على الرغم من الأخبار الواردة التي يفترض أن تسعف الاقتصاد السوري في محنته.

وبينما هبطت أسقف البيوت على الناس خلال الزلزال المدمّر في 6 فبراير / شباط الماضي انتعشت الليرة قليلاً بفضل المساعدات المالية والمادية المخصصة للاستجابة الطارئة للزلزال.

ومن جملة ما قام به مصرف سورية المركزي إجراء تغيير في سياسته النقدية لتصبح أكثر مرونة مع سعر السوق الرائج بهدف تقليص عدد نشرات أسعار الصرف ضمن مساعيه لتوحيدها، حيث يصدر عن المركزي يومياً 3 نشرات لسعر صرف الليرة أمام العملات الأجنبية وهي سعر الصرف الرسمي ونشرة المصارف ونشرة الحوالات، وسبق وألغى نشرة رابعة متعلقة بالبدلات العسكرية، وجاءت هذه السياسة بعد سنوات من التشبث بأسعار صرف عديدة وبعيدة عن سعر السوق السوداء.

وما بين مساعدات الزلزال ورفع العقوبات بشكل مؤقت وقرار توحيد أسعار الصرف وقرار عودة سورية للجامعة العربية، لم تستقر الليرة ودخلت في مستويات قياسية جديدة. فما جدوى قرارات النظام النقدية وآثار عودة سورية للجامعة العربية على الليرة؟

قرارات جديدة تقابلها مستويات قياسية

تشير رؤية المصرف المركزي السوري في باب السياسة النقدية لـ"الحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي، بما يسهم في تحقيق أهداف السياسة الاقتصادية الكلية، وتقوم على بناء سياسة نقدية فاعلة ومؤثرة تستهدف الحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة السورية، ومعدل تضخم منخفض ومستقر، وتسهم في توفير البيئة الملائمة للاستثمار ودعم النمو الاقتصادي".

إلا أن المتابع لسياسات المصرف المركزي والمسار الهابط لليرة والاقتصاد يجد عكس كل ما ذُكر في رؤية المصرف، حيث خفّض المركزي قيمة الليرة من 50 ليرة للدولار إلى 9100 ليرة بشكل دوري لتفقد 99.45% من قيمتها منذ 2011، وارتفع معدل التضخم السنوي لأسعار المستهلك إلى أكثر من 600% في منتصف 2022 مقارنة بعام 2019 كما وصل معدل التضخم الغذائي لأكثر من 670% خلال الفترة نفسها، بحسب المركز السوري لبحوث السياسات لأسعار المستهلك في سورية للفترة بين تشرين الأول/أكتوبر 2020 وحزيران/يونيو 2022.

ومع دخول المصرف المركزي تحت رادار العقوبات الأميركية والأوروبية وتعرض النظام المصرفي في لبنان لأزمة مالية خانقة لم يوفّر النظام أي طريقة للحصول على دولارات من أي جهة، فاستغل المساعدات الخارجية من خلال إجبار وكالات الأمم المتحدة على استخدام سعر الصرف الرسمي في التصريف وهو أقل من سعر صرف السوق السوداء بطبيعة الحال، ليحقق النظام ما يقرب من 60 مليون دولار في عام 2020 وحدها من خلال جمع 0.51 سنت من كل دولار مقدم عبر المساعدات الإنسانية المرسلة إلى سورية.

وإذا تم تضمين الرواتب وبرامج المساعدات النقدية والمساعدات الأخرى فقد يحقق المصرف المركزي مئات الملايين من الدولارات بحسب دراسة لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ومركز أبحاث العمليات والسياسات، وباتت المساعدات الأممية المتدفقة إلى سورية شريان حياة للنظام وإحدى القنوات الرئيسية في التهرب من العقوبات وإنعاش خزائن العملة الصعبة التي يستخدمها في أعمال العنف والقمع، فوقع المجتمع الدولي في تضارب بين عقوبات مفروضة لحرمان النظام من الموارد المالية وبين استغلاله للمساعدات الإنسانية للتهرب من العقوبات.

كما حوّل سورية إلى دولة مخدرات تصدّر إلى الأردن ودول الخليج والعالم، وصار مخدر الكبتاغون بمثابة شريان حياة للمصرف المركزي في ظل العزلة والعقوبات المفروضة عليه، حيث يشير خبراء إلى أن حجم التجارة في هذا العقار المخدّر بلغ 5.7 مليارات دولار في عام 2021.

ومع تزايد الاحتياجات وتفاقم أزمة الطاقة والحبوب في سورية وانخفاض وتيرة المساعدات من إيران وروسيا، باتت هناك حاجة أكبر للعملة الصعبة لاستيراد السلع والمواد الأساسية، فاعتمد مع بداية العام الحالي سعر صرف قريب من سعر السوق السوداء، ورفع سعر الصرف في نشرة المصارف من 4522 ليرة للدولار إلى 6532، ودولار الحوالات من 4500 إلى 6500.

وعقب الزلزال وقرار وزارة الخزانة الأميركية إعفاء سورية من العقوبات المفروضة بموجب قانون قيصر لمدة 6 أشهر لجميع المعاملات المتعلقة بالاستجابة للزلزال، قرأ النظام القرار الأميركي بشكل يتوافق مع آليات استغلال المساعدات والتأكد من مرور المساعدات المالية عبر قنواته، ولم يدّخر جهداً في توفير أي طريق لتسهيل دخول الأموال إلى خزائنه، فدمج سعر الحوالات والصرافة بسعر واحد، وباتت عملية رفع سعر الصرف تتم بشكل يومي للاقتراب من سعر صرف السوق السوداء حيث ارتفع إلى 6650 ليرة ومن ثم إلى 7250 تباعاً لتصل إلى 7800 في 16 أيار/مايو 2023.

ليشكل اعتراف النظام بأثر السوق السوداء على سعر الصرف وحصة العملة الصعبة منها، وحجم الأزمة النقدية التي تعيشها الليرة، والابتعاد لأول مرة عن الحلول الأمنية وتهديد المتلاعبين بالسعر بالسجن والعقوبات والغرامات المالية، وبهذا سعى المصرف إلى ضمان امتصاص العملة الصعبة إلى قنواته والاستفادة منها تحت أي بند تدخل من خلاله إلى سورية، وهو ما حصل بالفعل حيث أسفرت هذه الحركة عن زيادة حصة المركزي من الحوالات بشكل كبير بحسب مدير مديرية العمليات المصرفية لمدى مصرف سورية المركزي، وبات أصحاب الحوالات يتجهون إلى السوق الرسمية بدلا من السوق السوداء.

أثر التطبيع على العملة السورية

على الرغم من قرارات البنك المركزي ومساعي النظام ومن ثم قرار الجامعة العربية إعادة مقعد النظام في الجامعة، ووعود الدول العربية في تقديم دعم مالي للنظام، إلا أن ذلك كله لم يُجد نفعاً في تصحيح مسار الليرة التي واصلت الهبوط وشكلت فجوة مقدارها 1325 ليرة بين سعر السوق السوداء وسعر المصرف المركزي لتكسر حاجز 9100 ليرة أمام الدولار.

ستبدو خطوة الدول العربية نحو النظام السوري مُجدية اقتصادياً بالنسبة للنظام إذا رافقها رفع العقوبات المفروضة من قبل الدول العربية على سورية والتي تضمنت: وقف التعامل مع البنك المركزي، ووقف التبادلات التجارية الحكومية مع النظام السوري، وتجميد الأرصدة المالية مع النظام، ووقف جميع التعاملات مع البنك التجاري السوري، ووقف تمويل أية مبادلات تجارية حكومية من قبل البنوك المركزية العربية مع البنك المركزي السوري، وتجميد تمويل إقامة مشاريع على الأراضي السورية من قبل الدول العربية.

وفي ظل الظروف الحالية من المتوقع أن يتغافل النظام عن هبوط الليرة، ويلتفت أكثر نحو استعادة الزخم الاقتصادي مع الدول العربية والتي شكلت في يوم ما السوق الرئيسي للصادرات السورية المصنّعة، وعودة خطوط التجارة للحياة مع ما يرافقها من تدفقات نقدية من إيرادات المعابر، فضلاً عن استعادة شبكة العلاقات النقدية والائتمانية مع البنوك المركزية العربية والتي ستشكل له نافذة على الأسواق، وسينتظر تدفقات نقدية تحت بنود مساعدات إنسانية للشعب السوري مقدمة من الدول العربية كبادرة للنظام للقضاء على شبكة إنتاج وتجارة المخدرات، وتجنباً للوقوع في مصيدة العقوبات الأميركية والأوروبية.

عطفاً على السؤال: إذا كانت حركة التطبيع ستؤتي ثمارها بتحسن الليرة أم لا؟ فإن قيمة العملة تتحدد بما يمتلكه البلد من أصول وثروات واحتياطيات طبيعية من غاز ونفط ومعادن وهي متوفرة في سورية ولكنها خارج سيطرة النظام، وإلى حجم الاحتياطيات النقدية السائلة وغير السائلة فإن خزائن المصرف المركزي السوري فارغة من الاحتياطيات وقد يكون مستبعداً على المدى المنظور أن تمد الدول العربية المصرف بالاحتياطيات اللازمة، وإضافة إلى ما سبق تسهم القدرة الإنتاجية والتصديرية للبلد في إضفاء قوة على العملة وهذه القدرة مشلولة في سورية وبحاجة إلى إعادة إعمار وعودة المهجرين والنازحين، وهو ما لم يتم بسبب تعنت النظام وعدم التنازل.

قد يعود النظام إلى الجامعة العربية بالفعل ولكن طالما أنه لا يسيطر على كامل الجغرافية السورية ومواردها الطبيعية؛ واستمرار العقوبات الأميركية والغربية على سورية ومنع إعادة الإعمار ستظل الليرة السورية تدخل عتبات سعرية جديدة وسيظل الاقتصاد يعاني من أزمات محتدمة.

وختاماً لابد من الإشارة إلى نجاح النظام في العودة إلى الجامعة العربية، ولكن لابد أيضاً من التذكير أن سورية واقتصادها وليرتها لن تعود إلى ما كانت عليه قبل 2011.

المساهمون