تبدو القوى الغربية غاضبة من تنامي العلاقات الاقتصادية بين تركيا وروسيا، ولا يعجبها الموقف المستقل أو "المتوازن" الذي تتخذه أنقرة تجاه الحرب الروسية في أوكرانيا. تبدّى هذا الغضب الغربي في التحذيرات المكتوبة التي بعث بها نائب وزير الخزانة الأميركي والي أديامو، قبل ثلاثة أيام، لاثنين من اتحادات رجال الأعمال الأتراك وقال فيها إنّ المؤسسات التركية ربما تتعرض لمخاطر الحظر الاقتصادي إذا واصلت التعامل مع روسيا.
ويرى المعهد الملكي البريطاني للشؤون الخارجية "تشاتام هاوس" أنّ الموقف المستقل التركي، ربما سيكون مكلفاً لأنقرة في المستقبل. وفي بروكسل قال مسؤول أوروبي، حسب ما ذكرت صحيفة فاينانشيال تايمز البريطانية، إنّ دول الاتحاد الأوروبي ربما تطلب من بنوكها وشركاتها مغادرة تركيا في حال تنامي التقارب الاقتصادي بين أنقرة وموسكو.
وحسب الصحيفة المالية البريطانية، فإنّ أوكرانيا حصلت على وثيقة روسية تقترح فيها أنقرة على موسكو استخدام البنوك التركية للالتفاف على العقوبات المالية الغربية. ونسبت الصحيفة هذه المعلومات إلى مسؤول في الاستخبارات الأوكرانية وإلى دبلوماسي غربي لم تسمه.
ورغم أنّ الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، انضم للتحالف الغربي في إدانة الغزو الروسي، فقد رفض تبني العقوبات الغربية على روسيا ومؤسساتها المالية، لكنّ الدول الغربية تنظر بعين الريبة والشك للموقف التركي المستقل أو المتوازن، في الحرب الروسية على أوكرانيا.
وتشير بيانات نشرتها مصادر أميركية إلى تزايد عدد الشركات الروسية التي فُتحت لها أعمال في تركيا، خصوصاً في مدينة إسطنبول، كما يتواصل تدفق الأثرياء الروس والمليارديرات الذين تعرضوا للعقوبات المالية والمصادرة في أوروبا نحو تركيا، وهذا العامل يغضب كلّاً من واشنطن ولندن وبروكسل، القوى الرئيسية التي تقود التحالف ضد روسيا.
وحسب البيانات الأميركية، فإنّ نحو 500 شركة روسية أنشأت أعمالاً في تركيا في النصف الأول من العام الجاري، كما أنّ الصادرات التركية إلى روسيا ارتفعت بنحو 75% خلال شهر يوليو/ تموز، مقارنة بحجمها في نفس الشهر من العام الماضي 2021. وفي ذات الصدد قفز عدد الروس الذين تملّكوا مساكن في تركيا خلال شهر إبريل/ نيسان الماضي، إلى المرتبة الأولى بين المشترين الأجانب. وترى واشنطن أنّ تركيا عبر رفضها تبني العقوبات الغربية على موسكو تمنح الشركات الروسية فرصاً لتفادي الحظر.
ولدى تركيا ذات الموقع الجغرافي الاستراتيجي والعضو في حلف شمال الأطلسي "ناتو" مصالح تجارية ضخمة مع كلّ من الولايات المتحدة ودول الكتلة الأوروبية مقارنة مع علاقاتها الاقتصادية مع روسيا. ولا يستبعد محللون أن تتعرض هذه العلاقات لخطر العقوبات في حال طال أمد الحرب الروسية في أوكرانيا وتمسك أنقرة بموقف التقارب مع موسكو ورفضها تطبيق العقوبات الغربية على روسيا.
وتواجه تركيا منذ عام 2020 وضعاً اقتصادياً ومالياً صعباً، إذ تدهورت قيمة العملة التركية إلى أقل من 18 ليرة مقابل الدولار، كما أن التضخم فاق 75% ولديها أزمة في تسديد الديون الخارجية قصيرة الأجل البالغة أكثر من 324 مليار دولار. من هذا المنطلق فهناك أخطار حال تعرض تركيا لعقوبات غربية بسبب موقفها المستقل.
وبلغ حجم التجارة السنوية بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي نحو 132.4 مليار يورو في العام 2020، بينما بلغ حجم التجارة التركية مع الولايات المتحدة نحو 14.72 مليار دولار في العام الماضي 2021. وفي المقابل، فإنّ حجم التجارة مع روسيا لا يتجاوز 30 مليار دولار. كما أنّ تركيا تعتمد في تمويلاتها على البنوك الغربية، وأيّ انسحاب لهذه البنوك من تركيا سيهدد موقف البلاد الائتماني.
ويرى المعهد الألماني للعلاقات الدولية والشؤون الألمانية في برلين، أنّ حرص تركيا على التوسط في الحرب بين موسكو وكييف غير مقبول للقوى الغربية في الوقت الراهن لأنّ روسيا ما زالت مؤمنة بالحلّ العسكري. وبالتالي، فإنّ التوتر بين تركيا والقوى الغربية يتزايد رغم أنّ أنقرة تطرح نفسها كوسيط مفيد للغرب في قضايا من بينها تمرير الغاز الطبيعي لبعض دول الكتلة الأوروبية وتوسطها بين موسكو وكييف في السماح بشحن الحبوب من موانئ البحر الأسود.
وتسعى تركيا من خلال هذا الموقف "المتوازن" إلى الإمساك بمصالحها مع طرفي النزاع وخدمة مصالحها واستغلال موقعها الاستراتيجي المطلّ على كلّ من البحر الأبيض والبحر الأسود إذ إنّ خليج البوسفور الممر الرئيسي للأسطول الروسي لخدمة مصالحها الاقتصادية في الظروف الصعبة التي يمر بها اقتصادها المقدر بنحو 800 مليار دولار.
على صعيد المصالح التجارية مع أوكرانيا، لدى أنقرة مصالح تجارية من بينها استيراد الحبوب والدخل الذي تحصل عليه من السياح، حيث يقدر المعهد الملكي للشؤون الخارجية البريطاني "تشاتام هاوس" أنّ السياح الأوكرانيين يمثلون نحو 8.3% فقط من إجمالي حجم السياح الذين يفدون لتركيا سنوياً.
كما لدى تركيا شراكة مع الشركات الأوكرانية في الصناعات الدفاعية. لكنّ أكثر ما يهم أنقرة في الجانب الأوكراني ويدفعها لدعم كييف، هو الحرص على ألّا تكسب روسيا الحرب على أوكرانيا. لأنّ كسب موسكو للحرب سيعني هيمنتها على البحر الأسود وتهديد كشوفات الغاز الطبيعي الجديدة التي تعمل على استخراجها من مياه البحر الأسود. ولدى روسيا حروب ونزاعات تاريخية مع تركيا في منطقة الأناضول وشرق أوروبا منذ الإمبراطورية العثمانية.
على صعيد المصالح الاقتصادية لتركيا مع روسيا، تعد روسيا أهم شريك تجاري لتركيا بعد دول الاتحاد الأوروبي، إذ تعتمد تركيا على روسيا في استيراد الطاقة والحبوب وإيرادات الدخل السياحي. وحسب المعهد الألماني للعلاقات الخارجية والشؤون الأمنية، بلغت نسبة السياح الروس 19% من إجمالي السياح الذين زاروا تركيا في العام 2021. كما تستورد تركيا نحو 80% من احتياجاتها من الحبوب التي تستخدمها في الاستهلاك المحلي والصناعات الغذائية المعدة للتصدير من روسيا وأوكرانيا.
على صعيد الطاقة تستورد تركيا نحو 33% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي من روسيا عبر أنبوب "تركيش ستريم". وتشير بيانات هيئة الجمارك الفيدرالية الروسية إلى بلوغ قيمة التبادل التجاري بين تركيا وروسيا خلال عام 2021 ما يزيد على 33 مليار دولار، مسجلاً ارتفاعاً بنسبة 57%، مقارنة بعام 2020.
كما بلغت قيمة الصادرات الروسية إلى تركيا 26.5 مليار دولار (بزيادة 66.4%)، في حين بلغت الواردات الروسية من تركيا 6.5 مليارات دولار، بزيادة 27.4%. وتقوم شركة روس آتوم الروسية حالياً بتنفيذ المرحلة الرابعة من محطات الطاقة النووية في تركيا. وهذه المحطات الأربع ستمد تركيا بنحو 10% من إجمالي احتياجاتها من الكهرباء وفقاً للتصريحات التركية الرسمية. وكانت وكالة تاس الروسية قد نقلت عن وزير الطاقة التركي، فاتح دونماز، في 21 يونيو/ حزيران الماضي قوله: "سيسمح تنفيذ مشروع محطات الطاقة النووية بتلبية 10% من احتياجات بلادنا من الطاقة الكهربائية".
وفي ذات الصدد، أكّد نائب رئيس الوزراء الروسي ألكسندر نوفاك، أهمية تركيا باعتبارها شريكاً تجارياً لبلاده وقال إنّ البلدين يتطلعان إلى زيادة حجم التبادل التجاري بينهما إلى 100 مليار دولار سنوياً. ويرفع تسارع نمو قيمة التبادل التجاري بين تركيا وروسيا من شكوك الغرب تجاه تركيا، على الرغم من الجهود التي بذلها الرئيس التركي في دعم أوكرانيا عسكرياً وإقناعه موسكو بالسماح بتدفق شحنات الحبوب الروسية إلى الأسواق العالمية، بالإضافة إلى منع تركيا مرور القطع البحرية الروسية عبر مضيق البوسفور.