خلال تطلعها إلى بلوغ نادي العشرة الكبار، انطلقت تركيا من ثنائية التعليم والصحة أولاً، فرفعت ميزانيتيهما من 7.5 مليارات ليرة إلى 114 ملياراً، وخفضت عدد الطلاب في الصف الواحد من خلال إنشاء 309 آلاف وحدة دراسية جديدة، فتمسكت بتنشئة الجيل الذي أعدت لمتابعة تحصيله 207 جامعات، وأهلت 100 ألف أستاذ جامعي.
على ضفة الصحة قامت ببناء 510 مستشفيات جديدة خلال العقدين الأخيرين، لتضمن تعافي الشعب عبر مجانية الصحة في القطاع الحكومي وتوسيع ميزات الطبابة من خلال التأمين الصحي.
بالتوازي، كان الاقتصاد هو الغاية والوسيلة في آن، الوسيلة الذي تميز تركيا، فتخلصها من ديون صندوق النقد الدولي، وتوصلها، كغاية، إلى نادي العشرين ضمن خطة متوسطة الأمد، وتضعها ضمن العشرة الكبار خلال الاحتفال بمئوية تأسيس الدولة.
وانطلقت تركيا نحو حلمها الاقتصادي من ثنائية الصادرات والسياحة، فبلغت ما تصبو، أو ما تخطط للوصول إليه، بعد زيادة الصادرات العام الماضي عن 180 مليار دولار وجذب 52 مليون سائح.
من دون أن تغفل بقية القطاعات، فإنتاجها الزراعي، الذي يفيض عن حاجة البلاد، يصل إلى 186 دولة، وتتطلع لعائدات بنحو 70 مليار دولار بعد عامين، وصناعتها التي كسبت رهان الجودة وتنافسية السعر، حتى في الأسواق الأوروبية، بدأت تعزز من سمعة هذا البلد الناشئ، الذي بدأ يحجز مراكز أولى عالمياً على صعيد الصناعات الدفاعية والغذائية والألبسة والمعدات الصناعية.
وحتى خلال الأزمات، مثل عام كورونا الذي نعيشه، برزت تركيا كثالث دولة عالمياً بتطوير لقاح كورونا، بعد تخصيص 13 مشروعاً، ورفدها حتى الدول الصناعية الكبرى بمستلزمات الوقاية من الوباء.
كل هذه التطورات تدفع إلى التساؤل: أين يكمن سر التطوّر في تركيا وما هي القطبة المخفية التي لم يرها مراقبو قفزات تركية خلال العقد الأخير، على معظم الصعد والميادين، بعد أن اقترب ناتجها الاجمالي من تريليون دولار؟
الأرجح أن الإجابة في مراكز الأبحاث التركية، التي قادت الزراعة إلى موقع بطلة التصدير والصناعة إلى الاختراع والإبداع، بعد أن أخذت بيد السياحة والعمران والصحة والتعليم، بل ولم تترك حتى الدراما والسينما التي تصدرها تركيا إلى أكثر من 145 دولة وتحصد نحو 700 مليون مشاهدة، بعد تصدير 150 مسلسلاً سنوياً، لتبلغ المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة عالمياً.
وكأن أهداف مجلس البحث العلمي والتكنولوجي "توبيتاك"، الذي انطلق بدعم وتمويل الباحثين وتعزيز مجالات البحث العلمي منذ عام 1963، تبدلت عام 2014 إلى شعار "طريقنا نحو المقدمة وممنوع الارتجال"، بعد قانون "دعم مراكز الأبحاث الاستراتيجية" لتحقيق سياسة تركيا وأهدافها التنموية.
قصارى القول: يكفي أن نعلم أن مراكز البحث والتطوير بتركيا وصلت اليوم إلى تسعمائة مركز، حصة إسطنبول منها 350 مركزا معتمدا، حتى نتلمس سر التطور في تركيا، وسنعي أسرار تصاعد تركيا على سلالم الصدارة، حينما نعلم أنه يوجد مئتا مركز متخصص بتعزيز المنافسة التركية عالمياً.
وليكتمل عقد الأبحاث، لا بد من الدعم المالي وصيانة كرامة ناشري العلم، إذ من بين 100 ألف أستاذ جامعي تركي، قلما يعمل واحد منهم خارج جامعته، فإنفاق تركيا نحو 14 مليار دولار على الأبحاث خلال العقد الأخير، وبلوغها المرتبة الثانية عالمياً من حيث سرعة زيادة حجم الإنفاق على البحث والتطوير، كان للباحثين حصة الكفاية والبحبوحة منها، والتي أوصلت مراكز البحث العلمي والتطوير بتركيا إلى تسجيل 2500 براءة اختراع.
خلاصة القول: حينما آمنت تركيا أن سر التطوّر هو الإنسان ومنح حريته وحقوقه، التطور بالعلم والتخطيط وحاملهما البشري، أياً بلغت التكنولوجيا ومحاولات إقصاء الكادر البشري أو الاستغناء عن مهاراته، سارت على طريق التنمية، فتحولت من بلد مدين إلى دائن، من مستورد يذهب مواطنوها إلى مدينة حلب السورية، قبل عقدين من الزمن، لشراء سلع غذائية وصناعية، إلى مصدر لأصقاع الأرض اليوم، من بلد أداة بيد "حلف الناتو" إلى صاحب قرار يفرض رؤيته وتحقيق مصالحه، ولو واجه العالم بأسره كما نرى في شرق المتوسط اليوم.