الغلاء ينغص بهجة أعياد الميلاد في أوروبا: الأمنيات تتراجع

25 ديسمبر 2022
الغلاء يقلص الإنفاق على شراء هدايا أعياد الميلاد (Getty)
+ الخط -

يبدو أن أسواق أعياد الميلاد لهذا العام 2022 في أوروبا ليست ككل عام. فعلى الأقل تبقى تقاليد ضخ أموال تسوق الهدايا في كثير من نواحي القارة أقل بكثير مما كانت عليه قبل أن تصاب اقتصاداتهم بالتضخم وارتفاع مستمر للأسعار وتراجع في الأجور، فيما يحاول البعض التكيف مع الحالة الجديدة، في محاولة للحفاظ على بهجة أعياد الكريسماس والسنة الجديدة.

وبحسب أغلب التقارير الاقتصادية، فإن التفاؤل الذي انتشر بعد بدء تجاوز أزمة جائحة كورونا، وانكماش الاستهلاك بسبب الإغلاقات الطويلة، والحالة النفسية التي أبقت المال في محافظ مواطني السوق الذي يضم نحو 450 مليون مستهلك، نخرته الأشهر التي تلت الغزو الروسي لأوكرانيا منذ فبراير/ شباط الماضي. الأسعار حلقت، مثلما صار التضخم يتعاظم بنسبة كبيرة في بعض الدول بصورة غير مسبوقة، وبالتالي يصبح "سوق الكريسماس" مجرد "بهرجة فرجة"، وتحسّر، فيما ينشط البعض في تقديم نصائح للحفاظ على بهجة الهدايا التي ينتظرها الصغار بفارغ الصبر.

وهذا العام، من إسكندنافيا شمالاً إلى جنوب القارة، يستشعر مواطنو منطقة اليورو وخارجها، بثقل الأسعار، ليس فقط بالنسبة إلى المواد الغذائية، بل بما يمسّ تقاليد ظلت راسخة منذ أن دخلت "شجرة الكريسماس" في تقاليد القارة (انطلاقاً من ألمانيا) قبل أكثر من قرن ونصف قرن. ينظر عادة الأطفال منذ صباح الميلاد إلى الهدايا المغلفة بأوراق مبهجة، انتظاراً لموعد تقاسمها وفتحها بعد عشاء الميلاد في أكثر المجتمعات.

قائمة "الرغبات" تُعد قبل وقت من 24 ديسمبر/ كانون الأول، وتحاول الأسر تلبية ما يحلم به أطفالهم من هدايا أُجِّل شراؤها تحت مسمى "عبّر عن رغبة الحصول عليها في الميلاد"، كما يسري في إسكندنافيا وغيرها من دول الشمال.

بالطبع، ثمة صدمة للتسوق هذه السنة. فمشقة الحياة وتكاليفها مستمرة بالتصاعد منذ أشهر، وبشكل يشبهه بعض المؤرخين وكبار السن بفترة الكساد حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، حيث ألقت أزمة الطاقة بظلالها على مختلف نواحي الحياة، وسبّبت ارتفاع الأسعار وصعود معدلات التضخم.

فتراجع القدرة الشرائية للأسر ظل ثابتاً مع معدل تضخم وسطي بنحو 10% في دول الاتحاد الأوروبي، وفي بعضها أعلى بضعف النسبة، مع ملاحظة أن أصحاب المتاجر شكوا أيضاً في فترة إغلاق الجائحة في 2020. فالمسألة لا تتعلق فقط باستنكاف المستهلكين عن بضائع الميلاد، من الهدايا والطعام والحلويات إلى الهدايا بمختلف أنواعها، بل أيضاً بما يسببه ارتفاع تكلفة الإنتاج والتوريد، بفعل زيادات أسعار الطاقة وغيرها.

ابتداع طرق للتعايش مع الأزمة

محاولات "ابتداع" طرق أخرى للتعايش مع حالة الأزمة أنتجت هذا العام كثافة في افتتاح أسواق "أكشاك الميلاد" في مدن أوروبية، على اعتبار أنها قد تكون بديلاً "أرخص" من محلات الأسواق التجارية. ورغم ذلك، أعرب أيضاً أصحاب أكشاك أسواق الميلاد عن ضيقهم من ضعف الإقبال. فكما يذكر لـ"العربي الجديد" في تولوز، جنوبيّ فرنسا، بعض هؤلاء فإن "ما يجري أن المتسوقين يوجدون في السوق وكأنهم خارجون إلى الفرجة على معرض بضائع، ويجادلون بالأسعار بشكل غير مسبوق". آخرون، ومنهم من يمتلك متجراً، اختار فتح كشك تؤمنه البلديات، لقاء دفع أجرة المكان والكهرباء للإنارة، يشكون أيضاً من أن اختيارهم لهذا الحل "ليس مثالياً، ففاتورة الكهرباء ترهق، والناس أصلاً مترددة بفعل انكماش قدرتها الشرائية".

وإذا بقينا في الحالة الفرنسية، كنموذج لحالة أوروبية أوسع، حيث يعتبر زمن أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة من "مقدسات" عادات الفرنسيين، يبدو أن تكاليف الإنتاج على العملاء لن تجعل منه بذات بهجة السنوات الماضية.

فالتقارير تؤكد أن التضخم يضرب حتى وجبات "عشاء الميلاد". لنأخذ بعض الأمثلة على زيادة الأسعار، فعدا عن أن أسعار الأسماك والمأكولات البحرية تستدعي قلب المستهلكين لشفاههم ورفع حواجبهم عند مشاهدة لوائح التسعير، ارتفعت المشروبات بين 5% و10%، بينما حلّق سعر "كبد الأوز" بنحو 30% على الأقل، وهو ما ينطبق على المحار، كوجبة احتفائية في ليلة رأس السنة الجديدة.

يتبادل المستهلكون الأوروبيون على مواقع التواصل بدائل لموائدهم التي عادة ما يعدونها بمناسبة الميلاد، فبدل البط مرتفع السعر هذا العام، يقترح البعض التوجه إلى لحم الحمل، على سبيل المثال. بعض الأمهات الوحيدات مع أطفالهن وجّهن في الدنمارك نداء طلب معونة ونصائح لكيفية التغلب على تكاليف الميلاد. صحيح أن كثيرات تلقين أموالاً من المؤسسات الخيرية، لكنها ليست دائماً الحل المثالي لبقية الأسر التي لا تستطيع الحصول على تلك المساعدات، وعليها تأمين المستلزمات من راتبها الأساسي، الذي بالفعل تنهشه زيادة تكاليف الحياة اليومية لأشهر قبيل حلول الميلاد.

تراجع في عموم أوروبا

لعل من المثير أن تذهب كبريات الصحف الأوروبية إلى إبراز معاناة الأسر الأوروبية عموماً، قبل الميلاد، وتوقعات الاقتصاديين باستمرارها حتى في 2023. وتحت عنوان "في جميع أنحاء أوروبا، أسعار ترتفع وأجور تنخفض" تناولت صحيفة لوموند الفرنسية في عددها يوم الاثنين الماضي، عمق تأثير التضخم الذي بلغ في المتوسط 10%.

ورغم أن الغضب من الغلاء لم يترجم بعد على نطاق واسع في شوارع أوروبية كثيرة، إلا أن مقاربة الأزمة بما عاشته القارة في سبعينيات القرن الماضي، بعد "أزمة النفط" (بعد قطعه عربياً في أثناء حرب أكتوبر/ تشرين الأول) ينذر بما هو أسوأ، وفقاً على الأقل للبنك المركزي الأوروبي.

ويبدي المتخصصون الاقتصاديون في أوروبا خشية من أن يساهم تآكل قدرات الناس في أعياد الميلاد بسبب التضخم وتراجع القدرة الشرائية وارتفاع تكاليف المعيشة إلى مشاهد شبيهة بتلك التي تشهدها بريطانيا على شكل إضرابات واحتجاجات في الشارع.

فالتذمر المكتوم لا يعني أن الأمور مستمرة على ما هو عليه، ولعل الكريسماس مجرد تذكير بأن أسواق أوروبا ستكون عاجلاً أو آجلاً مضطرة إلى زيادة الأجور، ولكنها أيضاً عملية معقدة بسبب استمرار التضخم في التحليق، إذ ستتجه الشركات والمصانع إلى رفع أسعارها (وهو بالفعل ما بدأ في الأسابيع الأخيرة في بعض الدول الأوروبية الشمالية) للتعويض عن خسائرها، ما يدخل المجتمعات في دوامة تسبب الصداع لصناع القرار، وبالأخص في منطقة اليورو التي لا يزال فيها الفارق ملحوظاً بين الأجور والتضخم.

في السويد والدنمارك وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ودول أخرى، يتحايل أصحاب المتاجر لتخطي حافة الإفلاس في موسم الكريسماس. هؤلاء يوجهون نداءات للمستهلكين والباحثين عن أعياد طبيعية، بحملات ترويجية لتخفيف فاتورته، تقول إنّ بإمكانك "قضاء ميلاد طبيعي، فاشترِ ما تريد اليوم وأجّل الدفع حتى 2023". قد تبدو الأمور وكأنها شراء مجاني، ولكنها في الواقع "فخ إضافي يضاعف من أزمات الأسر"، كما يقول لـ"العربي الجديد" في الدنمارك خبير حماية المستهلكين، هنريك ألبسلوند.

وحسب دراسة أجرتها مؤسسة "نيلسن أي كيو" NielsenIQ البحثية المتخصصة في خدمات المعلومات، فإن للتضخم المرتفع أثراً على عادات الميلاد وغيره على المستوى الأوروبي. فسلوك المستهلكين الشرائي، بعد عامين من جائحة كورونا، له أيضاً أبعاد اجتماعية ومالية قريبة ومتوسطة المدى.

خسائر ميزانية أعياد الميلاد

الأثر المباشر على أسواق أوروبا الاستهلاكية، في ظل الأزمة الحالية، يعني خسارة في المتوسط تصل إلى نحو 560 يورو من ميزانية أعياد الميلاد. وبالتالي إن قبض المستهلكين لأياديهم عن استخدام المال يؤدي في نهاية المطاف إلى حالة كساد في غير مصلحة عجلة الاقتصاد الأوروبي الذي كان ينتظر بفارغ الصبر مواسم الأعياد لتعديل ميزان خسائره.

لكن في المقابل، يبدي المستهلك الأوروبي بعض الذكاء في تأجيل شراء هدايا الميلاد الثمينة إلى الفترة التي تتوسط الأيام بينه وبين آخر يوم في السنة الحالية. فخلال الأيام من 27 وحتى 31 الشهر الحالي، تضطر أغلب المتاجر الأوروبية إلى حملة تخفيض كبيرة بالأسعار "أوكازيونات"، وخصوصاً على البضائع التي لا يجب أن تتكدس، ومن بينها الملابس، كما في الحالة الإسكندنافية، بينما إلى الجنوب تخفض أسعار الإلكترونيات وغيرها لأجل جلب مستهلكي "الكنبات" بإغراء تخفيض أسعار الاستهلاك بناءً على دراسات نفسية لجذب المستهلكين إلى الأسواق.

وإذا ألقينا نظرة على المجتمع الدنماركي، كمؤشر بسيط على ما يجري في أنحاء أوروبا، فسنجد، وفقاً لمركز "الإحصاء الدنماركي" أن الأحوال المعيشية دفعت بنحو 7.4% من السكان نحو خانة "الضعفاء مالياً"، وهذا يعني عملياً أن نحو 422 ألفاً يهتمون الآن بتأمين فاتورة معيشتهم أكثر من تلبية مستلزمات الكريسماس، بل ثمة آلاف يضطرون إلى الاقتراض لتأمين الفاتورة.

ويقدم البعض نصائح لمواطنين آخرين عن كيفية الحفاظ على بهجة أعياد الميلاد، ودون الحاجة إلى شجرة ميلاد (من شجر السرو الصغيرة) باستبدالها بشيء آخر توضع عليه الزينة، والتوجه إلى شراء هدايا "ناعمة"، أي بعض الجوارب والملابس الرخيصة للتدفئة في شتاء قارس ومكلف، وغيرها من النصائح الكثيرة عن أطباق الميلاد بصورة مختلفة عن المعتاد.

حتى في إيطاليا سيطرت أجواء عدم اليقين على ميلادهم هذه السنة. فالبلد الكاثوليكي المهتم بتقاليد الكريسماس يعاني تحت وطأة الظروف الاقتصادية الأوروبية الصعبة. ويعاني 39% من الإيطاليين تحت وطأة التضخم، ويعبّر 47% عن أنهم مضطرون إلى تعديل ميزانية الهدايا، مقارنة بـ14% العام الماضي 2021 (بسبب آثار الجائحة).

وبحسب ما كشفت مؤسسة Confesercenti لاستطلاع توجهات المستهلكين بالتعاون مع مؤسسة "إيبوس" للاستشارات، فإن الاستهلاك سيتراجع بنحو 39 يورو للفرد بالنسبة إلى الهدايا، التي عادة ما يصرف عليها 238 يورو في المتوسط السنوي حتى 2021.

ويعتبر شهر أعياد الميلاد عموماً في القارة العجوز اختباراً مهماً لتقييم الحالة الصحية للاقتصادات والاستهلاك. وتشير النيات والرغبات في الهدايا بأوروبا إلى أن الملابس تحتل نسبة 44% من أمنيات هدايا الميلاد، تليها الكتب 40% والعطور وأدوات تجميل بنحو 39%، بينما هدايا الطعام والأكسسوارات والمنتجات التكنولوجية والأثاث المنزلي بنحو 25% إلى 30%، ثم هدايا على شكل تذاكر سفر وعطلة في الخارج وكماليات باهظة الثمن بنحو 17%.

 

المساهمون