العملة الرقمية تستعد لتغيير النظام المالي العالمي

05 يوليو 2024
بتكوين العملة الرقمية الأغلى والأشهر في العالم (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- **تحولات اقتصادية تاريخية:** شهد العالم تحولات اقتصادية محورية مثل استبدال الحصان بالعربة بعد اختراع المحرك و"صدمة نيكسون" في 1971 التي أنهت نظام الذهب وأدت إلى تعويم العملات الورقية.

- **العملات الرقمية وتطورها:** أعلنت قطر عن مشروع العملة الرقمية لتعزيز السيولة وتسهيل المعاملات المالية، وتدرس دول أخرى مثل الولايات المتحدة والصين واليابان إصدار عملات رقمية.

- **التحديات والمستقبل:** العملات الرقمية تواجه تحديات مثل التضخم والدين العام، وتتطلب بيئة تكنولوجية متقدمة وقدرة على إدارة السياسة النقدية بفعالية، مما يجعل التحول إليها قراراً معقداً.

مرّ الإنسان بفترات زمنية محورية خلال العقود الماضية، غيّرت ماضيه وشكّلت مستقبله الاقتصادي. على سبيل المثال، ظل الحصان وسيلة للتنقل والعمل والحرب ونقل السلع لفترة طويلة، إلى أن تم اختراع المحرّك والآلة البخارية، فاستبدل الحصان بالعربة من سيارات وقطارات وسواها، وبات استخدام الحصان في الرياضة والهواية فحسب. اقتصادياً، مرّ العالم بـ"صدمة نيكسون" التي شكلت نقطة تحوّل محورية في النظام النقدي العالمي. في عام 1971، أعلن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون تعليق تحويل الدولار إلى الذهب، منهياً بذلك اتفاقية "بريتون وودز" ونظام الذهب. مهّد هذا التحول الطريق أمام تعويم العملات الورقية التي نتداولها حالياً. منذ ذلك الوقت، باتت قيمة أي عملة تستمد من ثقة الناس في الحكومة التي تصدرها، بخلاف النظام النقدي السابق الذي ربط طباعة العملة بالذهب أو الدولار الذهبي. ونتيجة لذلك، أصبحت الحكومات قادرة على إصدار النقود بناء على السياسات الاقتصادية والمالية من دون الحاجة إلى احتياطيات كبيرة من الذهب.

لا يزال هذا النظام معمولاً به حتى يومنا هذا، وله عيوب ومميزات، لم يحن الوقت بعد لتغييره. بينما يدور الحديث الآن حول تطوير العملة في ظل التقدم التكنولوجي الحاصل واستخدام تقنية البلوكشين والذكاء الاصطناعي. بدلاً من حمل عملة ورقية، يمكن تحويلها إلى أرقام ورموز ضمن محفظة نقدية في هاتفك، مما يوفّر تكاليف الطباعة، من أوراق وحبر ومستلزمات أخرى، إضافة إلى مخاطر التزوير.

قطر تطلق عملتها الرقمية

قبل أيام، أعلن مصرف قطر المركزي إطلاق مشروع العملة الرقمية عقب الانتهاء من تطوير البنية التحتية للمشروع، على أن المصرف سيجرّب ويطوّر تطبيقات مختارة للعملة الرقمية لتسوية المدفوعات ذات القيمة العالية مع مجموعة من البنوك المحلية والدولية، في بيئة تجريبية مصممة وفقاً لأحدث التقنيات المتطورة.
سيؤدي تطبيق هذا التوجه إلى إلغاء الورق كوسيلة للتبادل والتخزين والنقل، وإحلال عملة رقمية محله. وداعاً للورق إذن! قريباً، سيصبح الورق النقدي من الماضي ويتم وضعه في المذكّرات. سيتم إنتاج برامج وثائقية تسرد حكاية العملة الورقية شكلاً ولوناً ورائحة، وسيحكي الآباء لأطفالهم كيف كانوا يعطونهم مصروفهم اليومي بالعملة الورقية لشراء الحلوى!

يهدف مشروع قطر الذي سيدخل مرحلته التجريبية الأولى الممتدة إلى أكتوبر/تشرين الأول 2024، إلى تحقيق مجموعة من الأهداف مثل: الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي وتقنية السجلات اللامركزية والتقنيات الناشئة، وإنشاء أسس قوية لتعزيز السيولة من خلال توسيع المشاركة في تسهيلات الأسواق المالية، مع الإحاطة بالجوانب المرتبطة بأمن المعلومات خلال تنفيذ المشروع.

هناك العديد من الدول التي باشرت بدراسة إصدار عملات رقمية كبديل عن العملة الورقية، مثل الولايات المتحدة واليابان والصين والسويد والبرازيل وكندا، وغيرها. ما كان لهذا الخيار أن يتوفر على الطاولة لولا نضوج تقنيات البلوكشين التي تتيح خاصية السجلات اللامركزية، وتضمن تسجيل جميع المعاملات بشفافية وأمان عالِ وتحت رقابة الجهة الحاكمة، مما يوفّر بيئة ذات موثوقية وكفاءة عالية ومخاطر أقل، ويفتح فرصاً جديدة للنمو في الاقتصاد العالمي.

في عصر العملات الورقية، ظهر مسلسل "LA CASA DE PAPEL" دخل السارقون إلى البنك المركزي الإسباني وسرقوا ما فيه من أوراق نقدية. أما في عصر التحول إلى العملات الرقمية، على المنتجين إنتاج نسخة أخرى من المسلسل والتفكير في طرق مختلفة لإدخال السارقين إلى البنك وإجراء عملية السطو، فحتى لو دخلوا إلى البنك لن يجدوا شيئاً، سوى أجهزة كمبيوتر عملاقة ومعالجات ووحدات كهربائية وأجهزة تبريد وتقنيات فائقة الدقة.

لن يكون الناس بحاجة للتواصل مع مكاتب وسطاء وحوالات لإجراء العمليات المالية والمصرفية داخل البلد وخارجه. يكفي توفر هاتف ذكي لإجراء العملية المالية بكبسة زر بطريقة سريعة وكفاءة عالية. ولن تحتاج إلى دفع الأجور والعمولات اللازمة للتحويل، حيث ستوفر التقنيات المتاحة الكثير من التكاليف المالية جراء إلغاء أدوار الوسطاء.

لن تحمل في جيبك أية نقود أو بطاقات. مجرد وجود هاتفك أو ساعة ذكية أو توفر التطبيق الخاص بمحفظتك الرقمية، ستكون قادراً على شراء احتياجاتك وتحويل الأموال بكل سلاسة وكفاءة.

ومن بين أهم ميزات العملة الرقمية، في رأيي، تعزيز السيولة المالية، إذ من شأن رقمنة العملة توسيع قاعدة المشاركين في الأسواق وتعزيز السيولة المالية. لن يكون هناك عملات ورقية تدخر في المنازل، ويمكن أن تسهّل على الأفراد والشركات الدخول والمشاركة في البورصات والأسواق المالية، مما ينعكس على زيادة الاستثمار المحلي ويحفّز النمو الاقتصادي ويوفّر فرصا استثمارية جديدة للمستثمرين. وبفضل التقنية العالية وسرعة المعاملات المالية، ستصبح الأسواق المالية أكثر كفاءة ومرونة وأقل تكلفة.

كيف سينفّذ المجرمون عمليات غسل الأموال والصفقات المشبوهة؟ ستتيح العملة الرقمية تسجيل بيانات التحويل لكل شخص بشكل مرئي ومشفّر، مما يجعل كل عملية قابلة للتبع من قبل الجهة الحاكمة. بالإضافة إلى ذلك، ستتيح تقنيات الذكاء الاصطناعي تحليل أنماط المعاملات واكتشاف الأنشطة المشبوهة، مما يسهّل تعقّب النشاطات والأموال لمعرفة مصدرها وجهتها. وكيف سيتهرب التجار من دفع الضرائب يا ترى! إذ يمكن ربط النظام المالي للتاجر مع النظام الضريبي في الدولة، مما يسهّل عملية التحقق من المعاملات الضريبية وجباية الضرائب بشكل آلي ويمنع التهرب الضريبي. إعداد تقارير ضريبية بالاعتماد على البيانات المالية المسجلة رقمياً سيضمن دقة وشفافية أكبر في عملية تحصيل الضرائب ويقلل من فرص التلاعب والتهرّب الضريبي.

لا تغيير في النظام النقدي

الحديث عن العملة الرقمية، لا يعني نسف النظام النقدي الحالي المعمول به في العالم. فمثلما يحدث مع العملة الورقية، لا يزال هناك خطر حدوث التضخم والدين العام في ظل العملة الرقمية. لن يتغير الجوهر! فبدلاً من طباعة الأوراق النقدية، ستقوم الحكومات ببساطة بزيادتها رقمياً، وزيادة الكتل النقدية بشكل مفرط في كلا الحالتين ستؤدي إلى ارتفاع مستوى التضخم والدين العام وتقليل القوة الشرائية للعملة.

هذا يعني أن دولة مثل زيمبابوي وعملتها لن تكون بمنأى عن مشاكل التضخم الجامح الذي تعاني منه إذا قررت في يومٍ ما تبنّي العملة الرقمية، الفرق هو أن المواطن لن يحمل إلى السوق تريليون وحدة نقدية لشراء احتياجاته من السلع والخدمات، بل يكفي استخدام هاتفه في جيبه. كما أننا لا نزال نتحدث في مستوى القيمة نفسه، سواء كانت ورقية أو رقمية، فهي غير مرتبطة بالذهب ولا تمتلك قيمة جوهرية بحد ذاتها، حيث تأتي قيمتها من الثقة في الحكومة التي تصدرها. وفي حال فقدان هذه الثقة، يمكن أن تنهار العملة أياً كان شكلها.

وستظل العملة الرقمية مرتبطة أيضا بقرارات نقدية وسياسية من قبل الحكومات لتحقيق مكاسب اقتصادية أو سياسية أو انتخابية، مما يمكن أن يؤدي إلى نتائج اقتصادية سلبية على المدى الطويل، وتشكيل فقاعات وأزمات اقتصادية. وإذا لم تكن هناك إدارة فعّالة للسياسة النقدية والمالية من قبل البنك المركزي، ستظل التحديات ذاتها موجودة في حالة اعتماد العملات الرقمية.

لا بد من الإشارة إلى الفجوة التي ستنتج عن هذه النقلة بين الدول التي تعتمد على العملة الرقمية وتلك التي لا تزال تستخدم العملات الورقية. هناك دول عديدة لا تزال تفتقر إلى التكنولوجيا ويعاني سكانها من الفقر، وعدم امتلاك هواتف ذكية أو الوصول إلى الإنترنت. التحول نحو استخدام العملة الرقمية ليس قراراً سهلاً، إذ يعتمد بشكل كبير على توفر بيئة تكنولوجية متقدمة ونسبة محددة من رفاهية السكان ومستويات عالية من الأمان التقني والمالي، بالإضافة إلى استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. كما يتطلب أيضاً- قبل أي شيء- رغبة الدولة ومؤسساتها وقدرتها على تحويل نظمها البيروقراطية من الورق إلى الأرقام، وتوفر الكوادر البشرية القادرة على تشغيل أنماط العمل الجديدة. أخيراً، يبرز هذا التحول حقيقة كيف أن التقدم التكنولوجي يغيّر ملامح حياتنا اليومية بطرق كنا نظنها خيالاً يوماً ما.

المساهمون