تتجه أنظار المستثمرين نحو الذهب، وسط احتمالات دخول العالم في دورة "الركود التضخمي" وتراجع قيمة عملات اقتصادات كبرى، من بينها اليورو الأوروبي والين الياباني، ومخاطر إفلاس بعض الدول الناشئة المثقلة بالديون، وتواصل هروب الثروات العالمية إلى السوق الأميركي، وتفاقم الديون العالمية إلى نحو 300 تريليون دولار.
ووفقاً لهذه الأخطار المحدقة بالاقتصاد العالمي، يبني خبراء توقعاتهم بصعود سعر الذهب، وسط محدودية الأصول الآمنة التي تحقق عوائد حقيقية ومخاوف تآكل الثروات.
وشهدت العديد من البورصات العالمية تدهوراً كبيراً في مؤشراتها خلال النصف الأول من العام الجاري، وهو ما يهدد بهروب المستثمرين من أسواق الأسهم ويدعم الذهب.
في هذا الصدد، تشير بيانات سوق "وول ستريت" إلى أن مؤشر بورصة ناسداك تراجع بنسبة 29.3% في النصف الأول من العام، وفي ذات الفترة تراجع مؤشر "ستاندرد آند بورزـ 500" بنحو 20%، وتراجع مؤشر العقارات بنسبة 21.9%.
لايزال سعر الذهب منخفضاً ويملك فرص الصعود، مقارنة بالمخاطر التي تواجهها الأصول الاستثمارية الأخرى
في المقابل، تراجع مؤشر الذهب بنسبة 1.2% فقط في النصف الثاني. وهو معدل منخفض جداً، مقارنة بالتراجع في أسعار الأسهم والعقارات. كما لايزال سعر الذهب منخفضاً ويملك فرص الصعود، مقارنة بالمخاطر التي تواجهها الأصول الاستثمارية الأخرى.
وكان سعر الذهب قد ارتفع في السوق المستقبلية يوم الجمعة الماضي، حيث أغلق سعر أوقية الذهب "الأونصة" لعقود ديسمبر/كانون الثاني مرتفعاً 12 دولاراً ليبلغ 1781.8 دولارا، حسب بيانات بلومبيرغ.
وهذا السعر يرشح الذهب للصعود مقابل ترشيح خبراء سوق الأسهم الأميركي، الجاذب الأكبر للاستثمارات العالمية، للتراجع أكثر خلال النصف الثاني من العام بسبب القلق من الركود الاقتصادي وتداعياته على تراجع أرباح الشركات الأميركية.
في هذا الصدد، يرى الخبير الاستثماري غريغر غريغرسن، مؤسس شركة "سيلفر بليان بي أل سي" البريطانية، أن "الذهب في هذه الظروف المالية والسياسية غير المستقرة يُعد من الأصول الآمنة الجاذبة للمستثمرين".
ويتوقع غريغرسن في تعليقات لنشرة "مينت"، ارتفاع سعر الذهب خلال العام الجاري إلى 2000 دولار، وأن ترتفع أسعار الفضة إلى 26 دولاراً للأوقية "الأونصة".
من جانبها، تقول محللة الأسواق الناشئة في شركة "ستون أكس غروب" اللندنية، روهان أو. كوننيل، إن "أسس الاقتصاد والاضطراب السياسي العالمي تدعم ارتفاع الذهب وترفع جاذبيته الاستثمارية".
وكان كل من مصرف "جي بي مورغان" و"غولدمان ساكس" ومصرفيين كبار آخرين قد حذروا المستثمرين من احتمال حدوث صدمة للاقتصاد الأميركي ترفع من عدم اليقين في البورصات الأميركية.
في ذات الشأن، يرى الخبير الاستثماري والمصرفي السويسري، ماثيو بين بيرغ، في تحليل بنشرة "غولد سويسر لاند" السويسرية التي تصدر في جنيف، أن ما يرشح صعود المعدن الأصفر في المستقبل القريب أن العالم يواجه دورة كساد اقتصادي، وأن معالجات البنوك المركزية لأزمات الاقتصاد وصلت إلى نهايتها ولم تعد لديها خيارات جديدة.
كما يشير بين بيرغ إلى أن الاقتصادات الكبرى مثقلة بالديون حالياً وبحاجة إلى ديون جديدة عبر إصدار السندات السيادية، ولكنها باتت في ورطة حول كيفية جذب المستثمرين لتمويل العجز في الإنفاق.
وبالتالي، يرى الخبير بين بيرغ أن رفع سعر الفائدة البنكية في أميركا وأوروبا وما تبعه من رفع الفائدة في الاقتصادات العالمية، هو أحد وسائل جذب المستثمرين لوضع أموالهم في سندات الدين الحكومية.
توقعات بارتفاع سعر الذهب خلال العام الجاري إلى 2000 دولار، وأن ترتفع أسعار الفضة إلى 26 دولاراً للأوقية "الأونصة"
ولذا، يقول الخبير السويسري إن الإدارة الأميركية لم ترفع سعر الفائدة على الدولار فقط لمكافحة التضخم الجامح الذي يهدد المستوى المعيشي ورفاهية مواطني الولايات المتحدة، ولكنها رفعت الفائدة كذلك لأنها باتت مضطرة لجذب الثروات المحلية والعالمية إلى السوق الأميركي، وتشجيعها على وضع الأموال في سندات الخزينة الأميركية أو في الإيداعات بالبنوك الأميركية، في لحظة يواجه العالم اضطراباً كبيراً في موازين القوى.
ويلاحظ أن الولايات المتحدة تمر في الوقت الراهن بتحديات كبرى تهدد موقعها كزعيم للنظام المالي والاقتصادي العالمي، وسط مخاطر التحالف بين موسكو وبكين والحرب الروسية في أوكرانيا التي تهدد أوروبا، أهم حلفاء أميركا، في إدارة النظام الرأسمالي.
ومن هنا، يقول بين بيرغ إن واشنطن تسعى عبر الدولار القوي إلى تركيز الثروة العالمية في المؤسسات الأميركية، لتصبح الممول الرئيسي للدول والشركات خلال هذه الفترة المضطربة.
خبير استثمار عالمي: واشنطن تسعى عبر الدولار القوي إلى تركيز الثروة العالمية في المؤسسات الأميركية، لتصبح الممول الرئيسي للدول والشركات
في ذات الصدد، يقول المحلل المالي وصاحب نشرة "ذا غولد أيدج" صوما بول، في تحليل بموقع "سيكينغ ألفا" الأميركي، إن مجلس الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" خسر حتى الآن معركة التضخم، وأن الذهب يتجه للارتفاع بقوة خلال العامين المقبلين، وربما يرتفع إلى مستويات تتراوح بين 3000 و3500 دولار للأوقية "الأونصة" خلال فترة تتراوح بين 12 و24 شهراً.
ويقول المحلل صوما بول إن أميركا تواجه ورطة التضخم حالياً، وهي ورطة أكبر، مقارنة بورطات التضخم التي حدثت في السبعينيات من القرن الماضي.
ويشير صوما بول إلى أن البنك المركزي الأميركي في السبعينيات كانت لديه أدوات عديدة لخفض التضخم، لأن نسبة الدين الأميركي كنسبة إلى الناتج المحلي كانت تتراوح وقتها بين 30 و35%، أما الآن فإنها بلغت نحو 130% من إجمالي الناتج المحلي. وهذا يعني أن الفائدة المرتفعة ستحدث أزمة في خدمة الدين السيادي. ويتوقع الخبير بول أن تدعم هذه العوامل سعر الذهب.
من جانبه، يشير الخبير السويسري بين بيرغ إلى الأخطاء التي وقع فيها مجلس الاحتياط الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" والمصارف المركزية في الاقتصادات الرأسمالية، حيث توسعت في طباعة البنكنوت وتوسيع الكتلة النقدية التي ارتفعت بنسبة 40% في الولايات المتحدة خلال العامين الماضيين.
ورغم أن الحرب الروسية على أوكرانيا فاقمت من أسعار الغذاء والوقود والمعادن، ورفعت تبعاً لذلك أسعار السلع الاستهلاكية، وبالتالي رفعت معدل التضخم إلى هذه المستويات التي لم يشهدها العالم منذ عقود السبعينيات من القرن الماضي، إلا أن التوسع الضخم في الكتلة النقدية يعد من الأسباب الرئيسية في دخول العالم دورة التضخم الجامح الخطرة الحالية.
ويرى خبراء أنه على الرغم من أن الدولار القوي الذي ارتفع بنسبة 7% خلال الربع الثاني من العام الجاري واحتمالات ارتفاعه أكثر سيساهم في جذب الثروات إلى الولايات المتحدة، إلا أن العائد الحقيقي السلبي على سندات الخزانة الأميركية ربما يدعم الاستثمار في الذهب.
وبحساب بسيط، فإن العائد الحقيقي على سندات الخزانة الأميركية يبلغ حالياً أكثر من سالب 6%. ويبلغ التضخم في السوق الأميركي معدل 9.1%، بينما يبلغ العائد على سندات الخزينة الأميركية أجل 10 سنوات، وهي السندات الأكثر جاذبية للمستثمرين في العالم نسبة 2.89%. وهذا يعني بلغة الرياضات حينما تحسم نسبة التضخم البالغة 9.1% من العائد المتحقق البالغ 2.89%، فإن المستثمر في السندات الأميركية سيتكبد خسائر سنوية نسبتها 6.21%.
وهذه الخسارة الحقيقية التي سيتكبدها المستثمرون ربما ستدفعهم نحو الاستثمار في أدوات تحفظ الثروة، وربما تحقيق عوائد حقيقية أكبر مثل المعادن والطاقة، وعلى رأسها النفط والذهب والصناعات الخاصة بالموصلات وأشباه الموصلات التي سيرتفع الطلب عليها بشدة خلال السنوات المقبلة.
من بين المخاطر الأخرى التي تهدد المستثمرين في البورصات الكبرى، التراجع الخطير في أسعار صرف العملات
وأظهرت بيانات بلومبيرغ لأسعار العملات، يوم الخميس الماضي الذي تلا قرار رفع الفائدة الأميركية بنسبة 0.75%، تراجع الين الياباني والدولار الكندي واليورو والفرنك السويسري واليوان الصيني.
وتشير مؤشرات أسعار العملات بصحيفة "وول ستريت جورنال"، يوم الخميس، إلى أن مؤشر الدولار كسب أمام 16 عملة رئيسية في سوق الصرف نسبة 8.7% حتى نهاية يونيو/حزيران الماضي، وهو ما يعني أكبر ارتفاع للعملة الأميركية في نصف عام منذ عام 2010.