الذهب هابط والدولار صاعد... ما العلاقة؟

05 أكتوبر 2022
الذهب يبدأ رحلة هبوط تزامناً مع ارتفاع الدولار (getty)
+ الخط -

هبطت أسعار الذهب إلى 1660 دولاراً وهو أدنى مستوى منذ عام ونصف العام تزامناً مع ارتفاع الدولار بنسبة تقترب من 18% منذ بداية العام، وهو ما يتطلب تفكيك العلاقة وتاريخها التي تربط الذهب بالعملة الأميركية.

وكان الذهب قد شهد صعوداً خلال العام الماضي إلى قرابة 2030 دولاراً تزامناً مع انخفاض الدولار بعدما واجه العالم جائحة كورونا والتي تسببت باختناقات في سلاسل التوريد وحجر صحي للمواطنين وإغلاقات شملت المتاجر والمصانع.

اتبعت البنوك المركزية وقتها سياسة تيسير كمي لمعالجة الآثار التي لحقت بالأسواق والمواطنين وأبقت على أسعار الفائدة منخفضة.

ومع الغزو الروسي لأوكرانيا والمخاطر الجيوسياسية التي رافقت الغزو على الأسواق العالمية؛ ارتفع سعر أونصة الذهب إلى 2070 دولاراً في مارس/آذار الماضي وهو أعلى مستوى على الإطلاق، ويبدأ بعدها رحلة هبوط على مدار ستة أشهر تزامناً مع ارتفاع الدولار.

ارتباط عضوي
غنيٌ عن التعريف العلاقة الموجودة بين الذهب والدولار، أحدهما يصعد والآخر يهبط، هذه العلاقة ليست وليدة البارحة، بل منذ قررت الولايات المتحدة في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون عام 1971 التخلي عن ربط العملات الأجنبية بالدولار الذي كان بدوره مربوطاً بكمية ثابتة من الذهب.
سُكِب الذهب في العملات منذ حضارة الليديين في عام 700 قبل الميلاد وتبعهم الإغريق في اليونان عندما استخرجوا الذهب من دول البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، وطوّر الرومان لاحقاً علم التعدين ووسّعوا من بحثهم واستخراجهم للذهب، فتدفقت العملات الذهبية إلى العالم وباتت تستخدم على نطاق واسع.

موقف
التحديثات الحية

وفي عام 1660 تم إصدار أول عملة ورقية مقوّمة بالذهب من قبل بنك سويدي في استوكهولم، الذي سيفشل لاحقاً في دفع قيمة الأوراق النقدية بالذهب، ليأتي بعد ذلك السير إسحاق نيوتن ويحدد الوزن القياسي للذهب عند 84 شلن للأونصة، وسيستمر هذا النظام على مدار 200 عام في إنكلترا، والتي ستبني على هذه التجربة في عام 1821 من خلال ربط عملتها الورقية بكمية ثابتة من الذهب.

وفي عام 1879 ربطت الولايات المتحدة الدولار بالذهب بحيث كان كل 20.67 دولارا يساوي أونصة ذهبية، وبقي الوضع هذا مستمراً حتى الحرب العالمية الأولى 1914 ليبدأ المكافئ بالتقهقر إثر قرارات الإدارة الأميركية بالتدخل في الاقتصاد وطباعة النقود للتعافي من آثار الكساد العظيم 1929 لتبلغ عندها كل أونصة 35 دولاراً.
ومع نهاية الحرب العالمية الثانية تقرر ربط العملات الأجنبية بالدولار على ذات المكافئ، امتلكت أميركا وقتها 75% من احتياطيات الذهب في العالم، إلا أن الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة والتضخم والعجز المالي وطباعة الدولار، أدى لإخفاق الإدارة الأميركية باستبدال العملات الأجنبية بالذهب.

وللحفاظ على احتياطياتها من الذهب قرر الرئيس نيكسون إعلان فصل الدولار عن الذهب وترك تحديد سعرهما للسوق وفق آليات العرض والطلب، لتطوى صفحة ربط العملة الورقية بالذهب بعد عام 1971.

مع كل ذلك بقيت ديناميات السوق الحرة تحدد سعر الذهب؛ بالنظر إلى قوة وضعف الدولار، ولم يُعامل لكونه معدناً يمتلك قيمة بذاته بفضل خصائصه الفيزيائية والكيميائية، وبالكاد يُشكل قرار الإنتاج والاحتياطي ونشاط شركات التعدين والطلب أهمية في تحديد سعر الذهب!

بقدر ما تلعب عوامل أخرى ذلك مثل: التضخم في العالم وأميركا، وعوائد سندات الحكومة الأميركية، وأسعار الفائدة في أميركا، والمعروض النقدي M1 للدولار، ومؤشر ثقة المستهلك بالاقتصاد الأميركي، ونمو الاقتصاد العالمي وبالأخص الأميركي، وأسعار النفط الخام والغاز المقوّمة بالدولار، وأخيراً أداء أسواق الأسهم العالمية وبالذات الأميركية.

لذلك لو أمعنّا النظر قليلاً سنجد أن الأمر لم يتغير كثيراً عن هيمنة أميركا والدولار على الذهب! بل حررت هذه الطريقة البنك الفيدرالي الأميركي من عناء ملاحقة الدول له من طباعة الدولار وتمويل ميزانياته عبر العجز والديون، حيث يبلغ الدين الأميركي العام زهاء 30 تريليون دولار وهو الأعلى في العالم، وسبق للبيت الأبيض رفع حد الدين الوطني أكثر من 80 مرة في تاريخ الولايات المتحدة.

علاقة عكسية
يفترض أن ارتفاع معدلات التضخم في العالم والمخاطر الجيوسياسية أن تنعكس إيجاباً على أسعار الذهب مع تخارج المستثمرين إلى الأصول الآمنة والتحوط من المخاطر، إلا أن هذا لم يحدث! حيث هبطت أسعار الذهب من 2070 دولاراً للأونصة في مارس/آذار 2022 إلى 1660 دولاراً قبل أيام قرب أدنى مستوى منذ عامين.
وتزامن هبوط سعر الذهب مع ارتفاع مؤشر الدولار لمستويات قياسية منذ عشرين عاماً إلى 110.76 مع تشديد الفيدرالي الأميركي سياساته النقدية لكبح جماح التضخم.

ومع ارتفاع معدلات الفائدة زادت شهية المستثمرين للاستثمار في سندات الخزانة الأميركية حيث ارتفع العائد على سندات الخزانة لأجل عامين إلى 3.79%، أعلى من عائد سندات الخزانة لأجل 30 عاماً التي حققت 3.518%، وسط توقعات أن يواصل البنك الاحتياطي الفيدرالي تشديد السياسة لكبح التضخم.
والتقط "البنك الدولي" مؤخراً إشارات لدخول الاقتصاد العالمي في ركود مع رفع معظم البنوك المركزية أسعار الفائدة لمكافحة التضخم المستمر.

وأشارت دراسة صادرة عن البنك أن أكبر 3 اقتصادات وهي الولايات المتحدة والصين ومنطقة اليورو تتباطأ بشكل حاد، ونبهت إلى أن الاقتصاد العالمي يمر الآن بأشد تباطؤ في أعقاب الانتعاش الذي تلا الركود في عام 1970، وأن ثقة المستهلك تراجعت بالفعل بشكل حاد أكثر مما كانت عليه في الفترة التي سبقت فترات الركود العالمي السابقة، متوقعاً رفع أسعار الفائدة نقطتين مئويتين إضافيتين علاوة على النقطتين اللتين تحققتا بعد النصف الثاني من 2021.
وشهدت مؤشرات الأسهم الأميركية أسوأ أداء لها منذ شهر يونيو/حزيران 2020، حيث انخفض مؤشر S&P500 منذ بداية العام وحتى الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر/ أيلول بنسبة 19%، وناسداك بنسبة 27%، وداو جونز بنسبة 16.9%.

وتوقع الملياردير راي داليو مؤسس أحد أكبر صناديق التحوط في العالم Bridgewater Associates حدوث تراجع كبير في أسواق الأسهم في حال ارتفاع الفائدة الأميركية إلى 4.5%.

قد يحمل التاريخ والأرقام دروساً إذا صدقت! حيث سنلحظ تفاعل أسعار الذهب مع معدلات التضخم ومؤشر الدولار ومعدل نمو الاقتصاد في أميركا (بحسب الأرقام المنشورة في موقع macrotrends.net)؛ ففي عام 1975 وصل معدل التضخم 9.14%، وارتفع مؤشر الدولار بنسبة 7.32%، وسجل الاقتصاد ركوداً بنحو 0.21%، فيما خسر الذهب من قيمته 25%.
وبين عامي 1979 و1980 ارتفع التضخم إلى 11.25% و13.55% وارتفع مؤشر الدولار في العامين بنسبة 8.72%، فيما اكتسب الذهب في هذين العامين 145.99%، في الوقت الذي سجل الاقتصاد الأميركي نمواً في 1979 بواقع 3.17 وركوداً 0.26% في 1980.
وفي عام 1981 صعد مؤشر الدولار بنسبة 12% تقريباً وخسر الذهب من قيمته 32% بينما كان معدل التضخم 10.33%، في عام 1982 وصل التضخم إلى 6.13% وارتفع مؤشر الدولار بنسبة11%، وارتفع الذهب بنسبة 12%، مع تباطؤ الاقتصاد الأميركي بنسبة 1.80%.
وفي عام 2013 مثلاً سجل معدل التضخم 1.46% مع ارتفاع مؤشر الدولار بمقدار 7.8%، في حين خسر الذهب 27.79% من قيمته، في الوقت الذي نما فيه الاقتصاد الأميركي بواقع 1.84%.
وفي عام 2020 سجل معدل التضخم 1.23% وانخفض مؤشر الدولار بنحو 6.5% تقريباً ليرتفع الذهب بنسبة 24.43% في الوقت الذي سجل الاقتصاد الأميركي تباطؤً بواقع 3.40%.

سنلاحظ من البيانات السابقة أن ارتفاع الذهب يترافق عادة مع تباطؤ الاقتصاد ودخوله في حالة ركود وانخفاض في مؤشر الدولار، والتي تستدعي خفض معدلات الفائدة لتحفيز الاقتصاد على النمو وهو ما ينعكس إيجاباً على الذهب.

وأمام الأرقام التي نشهدها حالياً من ارتفاع لمؤشر الدولار بنسبة تقترب من 18% منذ بداية العام وانخفاض أسواق الأسهم ورفع أسعار الفائدة إلى 3.25%، قد تبدو خسارة الذهب حتى الآن ما نسبته 8.38% منذ بداية العام في حدود المعقول، ومن أجل ارتفاع السعر مجدداً يحتاج البنك الفيدرالي الأميركي التقاط إشارات لانخفاض معدل التضخم ليعلن عودة الدورة الاقتصادية.

المساهمون