استمع إلى الملخص
- استخدام دقيق الذرة قد يؤدي إلى مشاكل تغذوية وصحية مثل نقص البروتين وزيادة خطر التعرض للسموم الفطرية والأفلاتوكسين، مما يرفع معدلات الإصابة بالسرطان في مصر.
- تم اقتراح وقف إضافة دقيق الذرة إلى الخبز والتوسع في زراعة الذرة الصفراء محلياً لاستخدامها في إنتاج الزيت وعلف الدواجن، مع الحاجة إلى إعادة تقييم استراتيجيات توفير الغذاء والحفاظ على الصحة العامة في مصر.
تتجه نية النظام المصري لاستخدام دقيق الذرة بنسبة 20% في إنتاج رغيف العيش البلدي المدعم لتوفير 2 مليون طن من القمح. وكان عبد الفتاح السيسي قد افترض قبل أيام أن هذه التقنية ستوفر 600 مليون دولار كانت تستخدم في استيراد تلك الكمية من القمح. وافترض كذلك أن استخدام دقيق الذرة في الإنتاج لن يؤثر على مواصفات طعم وشكل رغيف العيش الناتج. وكلها ادعاءات غير اقتصادية ولا علمية ولا صحية ولا تطبيقية، وذلك للأسباب التالية.
جدوى دقيق الذرة من الناحية الاقتصادية
بداية، ومن الناحية الاقتصادية، لم يأخذ السيسي في الاعتبار أن ما سيتم توفيره من ثمن القمح المستبدل بالذرة سوف يوجه مباشرة لشراء نفس الكمية من الذرة، لأن سعر الذرة يماثل تقريبا سعر القمح في السوقين المحلي والدولي. وبالتالي، فإن استبدال دقيق الذرة بنسبة 20% من دقيق القمح لن يوفر دولارا واحدا من قيمة الدعم كما يدعي السيسي. وفق بيانات وزارة الزراعة الأميركية، فإن الاكتفاء الذاتي في مصر من القمح والذرة متدنٍ ومتقارب، ذلك أن الإنتاج المحلي من القمح يغطي 41% من الاستهلاك، وتستورد مصر نحو 11.5 مليون طن من القمح سنويا. والإنتاج المحلي من الذرة يغطي 46% من الاستهلاك، وتستورد مصر نحو 8.5 ملايين طن من الذرة سنويا. ومن الأفضل اقتصاديا أن يوجه القمح لإنتاج الخبز ويخصص الذرة لإنتاج الأعلاف دون خلط.
أضف إلى ذلك أن المطاحن القائمة في مصر والتابعة للقطاعين العام والخاص مجهزة لطحن حبوب القمح فقط، وغير مجهزة لطحن حبوب الذرة الأكبر في الحجم، وعند طحن الذرة في هذه المطاحن تزيد تكلفة صيانة السلندرات والمناخل، وتنتج المطاحن دقيقاً أكثر خشونة وغير متجانس مع دقيق القمح. إضافة إلى أن دقيق الذرة غير المتجانس تزيد فيه نسبة الخبز التالف في مرحلة الخبيز، وهو ما يسمى بخبز "السحلة"، لأن دقيق الذرة لا يحتوي على "الجلوتين" الموجود في القمح والمسؤول عن تكوين "عرق" العجين. ويقوم صاحب المخبز ببيع خبز السحلة بالطن لمربي المواشي ومزارعي السمك، ما يعد فاقدا في الإنتاج وهدرا للمال العام.
كما أن "طزاجة" الخبز المخلوط بدقيق الذرة تتلاشى سريعا، ويصبح "مبرولاً" بعد ساعتين تقريبا من الخبز، وبالتالي يصبح طعمه غير مستساغ، ولا يضل هذا النوع من الخبز طريقه لحظائر المواشي في الريف، وصناديق القمامة في المدن. ذلك أن قرار إضافة دقيق الذرة إلى الخبز اتخذه أحمد جويلي، وزير التموين الأسبق سنة 1996، وكانت حجته توفير العملة الصعبة التي تدفعها الدولة في استيراد القمح، الذي لا يكفي الناتج المحلي منه سوى 50% فقط.
بعد تطبيق التجربة، قدرت الدراسات المسحية زيادة نسبة الخبز المتسربة إلى أعلاف الطيور والمواشي والأسماك والناتجة عن إضافة دقيق الذرة وزيادة نسبة خبز السحلة والخبز التالف إلى 20%، في مقابل 3% في الخبز غير المخلوط. وهو ما يخالف ادعاء السيسي أن الذرة لا تُغير كثيرا في مواصفات الخبز بقوله: "لما بنتكلم عن القمح المخلوط بالذرة.. مش بنغير كتير في المواصفات وبنقول حاجة معقولة.. مش بيغير في طعمه وشكله.. بتتكلم عن 20% ذرة مع القمح".
الناحية التغذوية
من الناحية التغذوية، يعتمد المصريون على الخبز البلدي في الحصول على احتياجاتهم من البروتين في ظل ارتفاع أسعار البروتين الحيواني. ومن المعروف أن نسبة البروتين في دقيق الذرة تقل بمقدار 25% عن نسبتها في دقيق القمح. ولذلك تعاني الشعوب التي تعتمد في غذائها على الذرة من مرض نقص البروتين والمعروف باسم البلاجرا.
وبالتالي سينخفض محتوى الخبز البلدي الناتج عن إضافة دقيق الذرة إلى دقيق القمح من البروتين، وخاصة النياسين، ما يعرض صحة المصريين وخاصة الأطفال لأمراض التقزم وسوء التغذية الناتجة عن نقص البروتين أكثر مما هي عليه الآن في ظل ارتفاع معدلات الفقر وزيادة أسعار اللحوم والأسماك والدواجن والبيض والحليب بمنتجاته لمستويات تفوق قدرات 90% من الأسر المصرية.
من الناحية الصحية
ومن الناحية الصحية، تزيد نسبة السموم الفطرية والتوكسينات السامة في دقيق الذرة، لأن حصاد الذرة في مصر يكون في بداية فصل الشتاء حيث ترتفع نسبة الرطوبة في الحبوب إلى أكثر من 25%، وهي نسبة مثالية لنمو الفطريات المسببة للأعفان والمنتجة للسموم الفطرية المسرطنة. عكس القمح الذي يحصد في بداية فصل الصيف وتصل نسبة الرطوبة في الحبوب إلى أقل من 9%.
بعد 14 سنة من استخدام دقيق الذرة في إنتاج الخبز البلدي، كشفت منظمة الأغذية والزراعة العالمية "الفاو"، عن أن ارتفاع معدلات السرطان في مصر يرجع في أحد أسبابه إلى سوء تخزين محاصيل الحبوب، وانتشار مادة "الأفلاتوكسين" الناتجة عن نمو الفطريات.
في هذا التوقيت، طالب أحمد البرديني، رئيس قطاع البحوث والتجارب في شركة مطاحن شمال القاهرة سابقا والحاصل على الدكتوراه في الكيمياء الحيوية بوقف إضافة دقيق الذرة للخبز، أو تحميص الذرة بعد حصاده لخفض نسبة الرطوبة ومنع نمو الفطريات. بعدها أعلن أحمد نظيف، رئيس الوزراء الأسبق، عن تخصيص 100 مليون جنيه بصفة عاجلة لشراء مجففات للذرة لمنع تعفنها، لكن المجففات لم تشتر، ولم يُعرف أين ذهبت هذه الملايين.
ورغم ارتفاع سعر الذرة عن سعر القمح بعد أزمة الغذاء في 2008، استمرت الحكومة في استخدام دقيق الذرة في إنتاج الخبز البلدي دون اعتبار لإهدار المال العام ولا لصحة المواطن الذي يعاني من أعلى معدلات الإصابة بالسرطان في العالم. ولم تحل الذرة أزمة الخبز في مصر طوال 16 سنة، وتسبب نقص الخبز في مشاجرات وسقطت أعداد ليست قليلة من القتلى في طوابير الخبز، وكان الخبز أحد أهم محركات ثورة يناير.
واستمر استخدام دقيق الذرة بعد ثورة يناير، رغم مطالبة البرديني بوقف إضافتها، وأخبرني أنه رفع مذكرة لمجلس الوزراء دون جدوى. وبعد تولي زميله، أبو زيد محمد أبوزيد، وزارة التموين، قابله في مكتبه وطالبه بوقف إضافة الذرة ولكن دون جدوى، رغم معرفة أبو زيد مخاطر استخدام الذرة بحكم عمله في مجال المطاحن.
البديل الأمثل
في أول لقاء لي مع باسم عودة، وزير التموين، بعد أيام من توليه الوزارة وعرضه أن أعمل معه مستشارا ومشرفا على المعامل المركزية في الوزارة، أخبرته بضرورة وقف إضافة دقيق الذرة، خطوةً أولى لتحسين جودة رغيف الخبز التي أعلن عنها الرئيس محمد مرسي، فطلب تقديم مذكرة رسمية بهذا الطلب. وبعدها أخذ موافقة رئيس الوزراء هشام قنديل، وأوقف إضافة الذرة.
ثم أطلق عودة مبادرة، اقترحها رئيس نقابة فلاحي مصر عبد الرحمن شكري، بالتعاون بين وزارتي التموين والزراعة واتحاد منتجي الدواجن، للتوسع في زراعة الذرة الصفراء محليا لتقليل الاستيراد ولاستخدامها في إنتاج الزيت التمويني وصناعة علف الدواجن، بدلا من إضافته لرغيف الخبز. ولكن، بعد شهر من الانقلاب العسكري، طلب وزير الزراعة أيمن فريد أبو حديد، من رئيس الوزراء وقف قرار باسم عودة، والعودة إلى خلط الذرة بالخبز، وهو القرار الذي ينوي النظام تطبيقه حالياً.
ذلك أن حكومة محمد مرسي كانت توفر الخبز لنحو 77 مليون مواطن، بتكلفة تعادل 21 مليار جنيه، تعادل 3.2 مليارات دولار، وكان وزن الرغيف 125 غراما. ولكن في الوقت الراهن خفضت الحكومة عدد المستفيدين من الخبز إلى 64 مليون مواطن، بنسبة 16%، وخفضت وزن الرغيف إلى 90 غراما، بنسبة 28%، ورغم ذلك يقول السيسي أن تكلفة دعم رغيف الخبز وصلت إلى 125 مليار جنيه، ما يعادل 2.6 مليار دولار، ما يؤكد أن أزمة رغيف الخبز في مصر نابعة من الفشل الاقتصادي وتخفيض قيمة الجنيه والفساد المستشري في وزارة التموين، وليس من زيادة عدد المصريين.
أتمنى أن يكتفي النظام بقرار رئيس مجلس الوزراء مصطفى مدبولي الأخير، الذي يقضي برفع سعر رغيف الخبز إلى 20 قرشًا، بنسبة زيادة 300%، ولا يقرر إضافة دقيق الذرة لرغيف الخبز، حرصا على صحة المصريين وصونا للمال العام. وأقترح زيادة نسبة استخراج دقيق القمح المعد لصناعة الخبز المدعم من 82% إلى 93.3%، ما يزيد القيمة الغذائية للخبز ويوفر نحو 14% من دقيق القمح، بدلا من إضافة دقيق الذرة.