أعلنت روسيا الانسحاب من اتفاق تصدير الحبوب من أوكرانيا في منتصف هذا الشهر بعد عام كامل من العمل به. وفي اليوم التالي، قصفت ميناء أوديسا، أهم موانئ أوكرانيا في تصدير الحبوب على البحر الأسود، ودمرت صوامع تحوي 60 ألف طن من القمح المعد للتصدير.
وبعد أسبوع قصفت صومعة حبوب في ميناء ريني، وهو واحد من أكبر الموانئ النهرية للحبوب في أوكرانيا على نهر الدانوب على الحدود مع رومانيا، فارتفعت أسعار القمح في البورصة الأوروبية بنسبة 8.2%، وأسعار الذرة بنسبة 5.4%، وقفزت قيمة العقود الآجلة للقمح الأميركي بنسبة 8.5%، وهي أعلى نسبة ارتفاع في يوم واحد منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، والأعلى على الإطلاق منذ مطلع هذا العام.
قبيل موعد التجديد بساعات في يوم 17 يوليو/تموز الحالي، روجت المنظمات الدولية لأهمية الاتفاق لدول العالم الثالث على وجه الخصوص. وأصدرت الأمم المتحدة تقريراً أعده برنامج الغذاء العالمي ركز على أهمية الاتفاق للأمن الغذائي للدول الفقيرة في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا، حيث لعبت الحبوب الصادرة من أوكرانيا دوراً مهماً في جهوده لتوزيع الغذاء على المحتاجين في أفغانستان وإثيوبيا وكينيا والصومال والسودان واليمن.
وأبرز التقرير الأممي أنّ 783 مليون شخص ليس لديهم ما يكفي من الطعام، وأنّ منهم 345 مليوناً يواجهون "مستويات عالية" من انعدام الأمن الغذائي، و40 مليوناً يعيشون في "ظروف مجاعة".
وأبدت المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية، نغوزي أوكونجو، الحزن على الفقراء في الدول الفقيرة الذين كانوا الأشد معاناة، وقالت إنّ التجارة في الغذاء والأعلاف والأسمدة في البحر الأسود ضرورية من أجل استقرار أسعار الغذاء العالمية.
أبرز التقرير الأممي أنّ 783 مليون شخص ليس لديهم ما يكفي من الطعام، وأنّ منهم 345 مليوناً يواجهون "مستويات عالية" من انعدام الأمن الغذائي
وأعلن نائب رئيس الطوارئ في منظمة الإنقاذ الدولية بوب كيتشن، أنّ المنظمة قلقة جداً من أن يؤدي عدم تجديد الاتفاق إلى تضخم كبير في الأسعار وتقليل كمية الطعام المتوافرة في السوق الدولية، وتعريض الناس لخطر هائل في جميع أنحاء العالم، وبشكل حاد في دول شرقيّ أفريقيا التي تعاني من الجفاف والصراعات العسكرية، وكانت تحصل على 80% من وارداتها من الحبوب من أوكرانيا وروسيا قبل الحرب، وعانت ارتفاعاً في الأسعار بنسبة وصلت إلى 40%، وكان على العائلات أن تبحث عن قدر كبير من المال لتتمكن من توفير الغذاء للأطفال وإبقائهم على قيد الحياة.
وحذر من مخاطر انهيار الاتفاق، كما يتوقع، على رفع أسعار الغذاء أكثر من ذلك بكثير. وبعد تجديد الاتفاق، نددت الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بتخلي روسيا عن الاتفاق وتعريض الدول الفقيرة للمجاعة، وتسييس الغذاء واستخدامه كسلاح في مواجهة الفقراء. فهل الدول الفقيرة هي الخاسر الأكبر من تدم تجديد الاتفاق؟!
أوكرانيا هي الخاسر الأكبر من تدم تجديد الاتفاق، ذلك أن تصدير المزيد من الحبوب كان يخفف من الضغط على الاقتصاد المنهك بالحرب. قبل الغزو، كان أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، و40% من الصادرات الأوكرانية يأتي من المنتجات الزراعية.
علاوة على ذلك، فإن مخازن الحبوب المتخمة في أوكرانيا كانت هدفاً عسكرياً لروسيا، وشكل الاتفاق حماية لها. وجاءت الصفقة في وقت حرج، فقد كان يعدّ لشحن كميات كبيرة من الحبوب المخزنة في الصوامع لتوفير مساحة تخزين لحصاد محصول الصيف الجديد.
لذلك، جعلت كييف صادرات الحبوب أولوية، وخفضت الحكومة متطلبات الترخيص لتجارة الحبوب وفتحت السوق للتجار الجدد. وأصبحت موانئ التصدير الثلاثة فرصة للعمالة المحلية المتعطلة بسبب الحرب.
الاتفاق كان فرصة لدعم الاقتصاد الأوكراني المأزوم في مواجهة الغزو الروسي، وقد انكمش بنسبة 45% في عام 2022، وفق بيانات البنك الدولي. ورفعت كييف ميزانيتها الدفاعية لأكثر من عشرة أضعاف منذ بدء الغزو.
دول الاتحاد الأوروبي تدعي أنّ 65% من القمح و57% من الذرة الذي صُدِّر من أوكرانيا ذهب إلى الدول الفقيرة
وقبيل توقيع الاتفاق بثلاثة أيام في منتصف العام الماضي، طالب رئيس أوكرانيا، فولوديمير زيلينسكي، الحلفاء في الولايات المتحدة وأوروبا بمبلغ 50 مليار دولار لسد عجز الموازنة بعد تراجع الإيرادات الضريبية إلى 20% فقط من نفقات الدولة، وجاء الاتفاق ليعوض كثيراً من العجز. والآن أصبح على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي دعم أوكرانيا بقيمة واردات الحبوب المعلقة.
أما دول الاتحاد الأوروبي التي تزعم الدفاع عن حقوق الدول الأفريقية الفقيرة، فتدعي أنّ 65% من القمح و57% من الذرة الذي صُدِّر من أوكرانيا ذهب إلى الدول الفقيرة. وذهب فقط 35% من القمح و43% من الذرة إلى الدول المتقدمة.
وحصل برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة على 80% من حاجاته من الحبوب من أوكرانيا، ارتفاعاً من 50% قبل الحرب، وتوجهت، وفق الرواية، إلى أفغانستان وإثيوبيا والصومال والسودان وجيبوتي.
لكنّ إحصائيات الأمم المتحدة كشفت، بعد عدم تجديد الاتفاق، عن شحن نحو 32.9 مليون طن من الحبوب بواسطة أكثر من ألف سفينة، منذ بدء العمل بموجب الاتفاق في الأول من أغسطس/آب 2022 حتى عدم تجديده، شكّلت الذرة 51% منها، والقمح 27%، وبذور دوار الشمس 6%، وزيت دوار الشمس 5%، ومواد أخرى 11%.
استقبلت الصين 8 ملايين طن، وإسبانيا 6 ملايين طن، وتركيا 3.2 ملايين طن، وإيطاليا 2.1 مليون طن، وهولندا مليونَي طن، ودول أوروبية أخرى مليونَي طن. أما برنامج الغذاء العالمي فحصل على 725 ألف طن فقط.
وبحسب أرقام أحصتها وكالة الأناضول التركية، نُقل إلى الدول الأوروبية 40% من الحبوب المشحونة من أوكرانيا، و30% منها إلى آسيا، و13% إلى تركيا، و12% إلى أفريقيا، و5% إلى الشرق الأوسط، ما يعني أن كمية الحبوب التي وصلت إلى الدول الفقيرة من أوكرانيا عبر الممر لم تزد على 19%، في مقابل 40% استحوذت عليها أوروبا.
وبالتالي فإن الخاسر الأكبر من عدم تجديد الاتفاق هو أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، وليس الدول الفقيرة في أفريقيا. ولو كانت أوروبا والولايات المتحدة حريصة على مصالح تلك الدول البائسة لدعمت خططاً جادة في تلك الدول للاكتفاء الذاتي من القمح والذرة، أو منعت إعاقتها على الأقل.
الخاسر الأكبر من عدم تجديد الاتفاق هو أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، وليس الدول الفقيرة في أفريقيا
ذلك ما كان يعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال سريان الاتفاق، فقد ذكّر غير مرة بأنه من بين 87 سفينة محملة بالحبوب من أوكرانيا، حملت اثنتان فقط حبوباً لبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، عبارة عن 60 ألف طن فقط من إجمالي مليوني طن غادرت الموانئ الأوكرانية في تلك الفترة.
ومرة أخرى، قال بوتين، لقد خدع الغرب الجمهور والشركاء في أفريقيا ومناطق أخرى بحاجة ماسّة إلى الغذاء، كانوا يزعمون أنهم يتصرفون لمصلحة البلدان النامية، لكنهم تصرفوا بالكامل لمصلحتهم الخاصة.
في الواقع، الدول الفقيرة تشتري الحبوب من روسيا، وليس من أوكرانيا أو الولايات المتحدة وأوروبا، طمعاً في الأسعار المنخفضة والتسهيلات التي تقدمها، رغم انخفاض جودة الحبوب الروسية، لا شك في ذلك.
مصر، وهي المستورد الأول للقمح في العالم، حصلت على 83% من وارداتها من القمح هذا العام حصرياً من روسيا، وقرابة 10% من أوكرانيا.
وقد تعهد بوتين في حالة عدم تجديد الاتفاق، وقد عُلق، بتزويد الدول الأفريقية بالحبوب والأسمدة والوقود مجاناً، في ظل توقعات حصاد قياسية هذا العام واستمرار تربع روسيا على مقعد أكبر مورد للقمح في العالم بمقدار 47 مليون طن.
وأعلن إلغاء ديون مستحقة على الدول الأفريقية بقيمة 20 مليار دولار. لذلك، أتوقع أن يزيد اعتماد الدول الأفريقية على روسيا بدرجة أكبر في تأمين الحبوب في المستقبل.
الدور المجهول في إبرام اتفاق تصدير الحبوب من أوكرانيا والذي سمح بتصدير الحبوب من موانئ أوكرانيا الثلاثة الواقعة على البحر الأسود، أوديسا وتشورنومورسك ويوجني، وعبر ممر آمن ودون اعتراض من السفن الحربية الروسية، كان بجدارة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بمظلة سياسية من الأمم المتحدة.
لماذا لا يُمنح الرئيس أردوغان جائزة نوبل للسلام، وهو الذي أقنع بوتين بتوقيع الاتفاق في المرات السابقة؟
وتشهد الأمم المتحدة وحدها ودون غيرها من الدول المستفيدة من الاتفاق بدوره في تراجع الأسعار العالمية للمواد الغذائية بأكثر من 23%، والحبوب بنسبة 50% من ذروتها في مارس 2022، وفقاً لمؤشر أسعار الغذاء لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة.
فقد انخفضت أسعار القمح من 525 دولاراً للطن قبل توقيع الاتفاق إلى 345 دولاراً للطن قبل عدم تجديده، وانخفضت أسعار الذرة من 350 دولاراً للطن إلى 270 دولاراً للطن.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لا يُمنح الرئيس أردوغان جائزة نوبل للسلام، وهو الذي أقنع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتوقيع الاتفاق، والجميع يدرك أنّ الأخير يستخدم الغذاء كسلاح في مواجهة الغرب في الحرب على أوكرانيا؟!
ذلك أنّ الجائزة قد مُنحت لبرنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة في عام 2020 لجهوده في مكافحة الجوع ومنع استخدام الغذاء كسلاح في الحرب، وهو الدور الذي أنجزه أردوغان في اتفاق الحبوب الأوكرانية؟!