كشفت شبكة رويترز، في تقرير حصري لها نهاية شهر مايو الماضي، عن أن الحكومة المصرية تؤخر دفع ثمن وارداتها الأجنبية من القمح بسبب نقص النقد الأجنبي.
ونقلت الوكالة عن أربعة من موردي القمح قولهم إن تأخير الحكومة سداد مدفوعات القمح مستمر منذ شهر ديسمبر من العام الماضي.
وقال أحد الموردين إن البنوك المصرية المملوكة للدولة، ومن بينها بنك مصر، والتي تتعامل في دفع ثمن القمح المستورد بالنيابة عن الهيئة العامة للسلع التموينية، تأخرت في فتح خطابات اعتماد لنحو ثماني شحنات من القمح قامت بتوريدها ولم يقبض ثمنها.
وقال مورد آخر، إن بنك مصر لم يسدد له ثمن 11 شحنة من القمح الذي قام بتوريده للحكومة.
وعلق مورد ثالث بقوله، إن ذلك يعتبر وصمة جديدة لمصر، فلم يحدث هذا التأخير من قبل إطلاقا، ومصر لم تتعرض قط لمثل هذا الموقف الجديد تماما عليها.
واعترف وزير التموين علي المصيلحي بالتأخيرات، وألقى باللوم على نقص العملة الأجنبية، وأنه لا يريد زيادة الضغط على البنك المركزي. ونقلت رويترز عن الوزير الشكر للموردين كثيرا جدا جدا جدا، ثلاث مرات، وفق تصريحه الحصري للوكالة بتاريخ 25 مايو الماضي، لتفهمهم موقف نقص النقد الأجنبي في البنك المركزي المصري.
لا يوجد في العلاقات الدولية خدمات مجانية. وفي التجارة الدولية، يبحث التجار عن الربح فقط، ولا ينفذون صفقات تجارية دون مقابل، وكل ميزة عندهم لها مقابل مادي يدفعها العميل. وقواعد التجارة الدولية واضحة وملزمة.
ولا مجال للعواطف ولا قيمة للتفهم والامتنان الذي يتحدث عنه الوزير. ذلك أن غرامات التأخير يتم النص عليها ضمن شروط المناقصات لحفظ حقوق المورد والمستورد.
ويتم النص على قيمة الغرامة المالية التي تقع على المورد إذا تأخر في مواعيد الشحن أو تلاعب في مواصفات الجودة المتفق عليها.
وبالمثل تقع على المستورد غرامة مماثلة إذا تأخر في دفع ثمن الشحنة، أو تأخر في تفريغ القمح من على ظهر السفينة في ميناء التفريغ المتفق عليه.
وبالتالي فإن تأخير الحكومة دفع ثمن شحنات القمح للموردين الدوليين، لا يكون مجانيا، بل سيكلف الخزانة المصرية مبالغ طائلة مقابل تأخير الدفع، وهو ما لم يكشف عنه الوزير.
ومن البديهي أن تدفع الحكومة المصرية تكلفة أعلى لشركات التأمين على شحنات القمح الواردة لمصر مقابل تكرار تأخير سداد ثمن الشحنات.
وكذلك تدفع أسعارا أعلى للموردين في مقابل تأخير الدفع أو الشراء بالأجل، شأنها في ذلك شأن قواعد التجارة حول العالم، حيث لا يوجد خدمة دون مقابل.
ولا يوجد ما يجبر تجار القمح على قبول التوريد للحكومة وهي تؤخر سداد ثمن الشحنة ولا يكون السعر الذي تدفعه أعلى مما يدفعه بقية الزبائن الملتزمين بالسداد.
وقد تتساهل في جودة القمح في مقابل التأخير في دفع الثمن، فتقبل قمحا يحتوي على فطر الإرجوت أو نسبة عالية من الرطوبة أو نسبة منخفضة من البروتين.
وكرد فعل مباشر على خبر تأخير الحكومة دفع ثمن وارداتها من القمح، كشفت وكالة بلومبيرغ الأميركية في الثامن من هذا الشهر عن أن الحكومة الروسية عرقلت بيع صفقة قمح كبيرة إلى مصر بسبب رغبة موسكو في البيع للقاهرة بأسعار أعلى.
وتسبب الاعتراض الروسي في تعطيل مناقصة القمح التي طرحتها القاهرة، وفازت بها شركة "أجريك" الروسية، لتوريد طن القمح مقابل 229 دولارا، دون تكاليف الشحن.
لكن السلطات في موسكو قررت تطبيق حد أدنى لسعر صادراتها من القمح عند 240 دولاراً، وفقا لما ذكرته بلومبيرغ التي أكدت أن الشركة الروسية تدرس سحب عرضها الفائز بالمناقصة، بعد فشلها في الحصول على موافقة وزارة الزراعة الروسية بسبب تغير موقفها تجاه صادرات القمح.
الخبر أحدث ضجة في سوق الحبوب الدولية.
وقال تاجر مقيم في جنيف إن شركة أجريك تلقت إشارة من وزارة الزراعة بعد البيع، ما يعني خسارتها مبلغ ضمان العرض، وهو 500 ألف دولار، ستتكبدها أجريك عن تخلفها عن البيع لهيئة السلع التموينية المصرية، وفق موقع إس آند بي غلوبال كوميودتي.
ما يعني أن الحكومة المصرية تتمسك بالشرط الجزائي إذا تخلفت الشركة الروسية عن الوفاء بتسليم القمح. وفي المقابل، تتمسك الأخيرة باستلام ثمن الشحنة في موعد تسليم القمح كما هو متعارف عليه، بعيدا عن التأخير الذي كشفت عنه رويترز في نهاية الشهر الماضي.
لإجبار الشركة الروسية على الوفاء بالصفقة، اتبعت الحكومة المصرية مسارين، الأول، نفت تأجيل دفع ثمن واردات القمح الذي كشفت عنه رويترز، وذلك في اليوم التالي لإعلان بلومبيرغ خبر عرقلة روسيا صفقة القمح الموردة لمصر، رغم مرور أسبوعين كاملين عن نشر الخبر دون رد، ورغم تأكيد وزير التموين الذي ضمنته الوكالة الخبر.
الثاني، وبالتزامن مع المسار الأول، حصلت مصر على قرض لسداد ثمن الشحنة الروسية من المؤسسة الإسلامية الدولية لتمويل التجارة بقيمة 700 مليون دولار لتمويل واردات الحبوب، وفق وزير التموين والذي صرح بأن المورد الروسي "ملتزم" بتسليم القمح، لكنه قد يبحث عن مصدر قمح من دولة أخرى بسبب تعنت روسيا بشأن الحد الأدنى للسعر، وذلك بعد توفير ثمن الشحنة.
توقيت طلب الحكومة قرضا لواردات القمح، وتصريح الوزير عن التزام الشركة الروسية بالتوريد بشرط تغيير بلد المنشأ، يؤكد رواية رويترز عن تأخيرها سداد ثمن واردات القمح بسبب شح الدولار، ويعطي الفرصة للشركة في البحث عن مصادر بسعر أقل من القمح الروسي، ولكن سيكون على حساب الجودة.
بالتزامن مع أزمة شحنة القمح المصري، اشترى الديوان الجزائري للحبوب في مناقصة عالمية حوالي 630 ألف طن من القمح، وقال تجار أوروبيون إنه من الناحية الفنية، يمكن توريد القمح من مناشئ اختيارية، لكن الأسعار المنخفضة المعلنة تعني توريد الحبوب من روسيا، وكانت الأسعار المعلنة فوق 260 دولارا للطن.
وبالتالي يمكن التنبؤ بجودة القمح الذي ستورده الشركة الروسية بسعر 229 دولار مهما كان مصدره.
في بداية العام المالي الحالي 2022-2023، والذي بدأ في شهر يوليو 2022 وينتهي بنهاية يونيو الحالي، أعلن مجلس الوزراء المصري عن أن مصر اقترضت من المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة 6 مليارات دولار لشراء القمح.
وفي ديسمبر الماضي حصلت على قرض من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي بقيمة 600 مليون دولار لنفس الغرض. وها هي تحصل على قرض إضافي بقيمة 700 مليون دولار للغرض نفسه.
حوالي 7.3 مليارات دولار ذهبت جميعها لتمويل واردات القمح في الغالب. وفي خضم الأزمة التي أثارتها رويترز، صرح وزير التموين لقناة "سي إن بي سي" عربية أن الحكومة قامت باستيراد 3.5 ملايين طن قمح منذ بداية العام المالي 2022-2023.
هذه الكمية لا تكلف أكثر من مليار ونصف المليار دولار على أقصى تقدير وبأسعار ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية، فأين ذهبت أموال قروض القمح؟!
قبل أسابيع، أعلن وزير التموين بأن الحكومة تدرس بقوة استيراد السلع الأساسية من روسيا ودول أخرى بالعملة المحلية لتلك الدول مع العملة المحلية لمصر في محاولة لتقليل الحاجة إلى الدولار.
ولكن الأيسر أن تشتري الحكومة القمح المحلي من الفلاح بالجنيه، بشرط أن تعطيه سعرا عادلا فضلا عن تقديم دعم له كما تفعل حكومات العالم.
وليس من العدل أن تفرض الحكومة سعر 10 آلاف جنيه لطن القمح المحلي، في الوقت الذي وصلت فيه أسعار الأعلاف إلى ضعف هذا السعر، وفي الوقت الذي يتم فيه تداول القمح الروسي في السوق المصري بسعر 13.5 ألف جنيه للطن.
توسع الحكومة المصرية في استيراد القمح بالدولار رغم شحه، وبقروض مليارية مرهقة، وإهدار خطط الاكتفاء الذاتي الممكنة من المحصول الاستراتيجي يدعوان إلى الريبة.
كما أن بخس الحكومة المصرية سعر القمح المحلي الذي تفوق جودته الأقماح الأجنبية، يفقر الفلاح ويدفعه إلى تخفيض المساحة المنزرعة وتفضيله زراعة محاصيل أخرى أقل استراتيجية أو هامشية، مثل الكنتالوب ولب التسالي، سعيا لتحقيق هامش ربح يعينه على تدبير مصاريف أولاده.
ويدفعه في نفس الوقت إلى استخدام القمح المحلي عالي الجودة كبديل لأعلاف المواشي والأسماك، وهي جريمة في حق الأمن القومي المصري تُسأل عنها الحكومة وليس الفلاح.