التمهيد لصدمة رفع الدعم في لبنان

22 يونيو 2021
الجمعيات الانسانية توزع الطعام على الفقراء في بيروت
+ الخط -

طوال الأشهر الماضية، كان الجميع يتهيّب لحظة رفع الدعم عن استيراد السلع الأساسيّة في لبنان، خصوصاً أن هذه اللحظة ستعني الانتقال تدريجيّاً من الاعتماد على المصرف المركزي لشراء الدولارات المطلوبة لاستيراد هذه السلع، وفق سعر الصرف الرسمي القديم، إلى تأمين الدولارات وفق سعر الصرف الفعلي في السوق. علماً أن سعر الصرف الفعلي يتجاوز اليوم العشرة أضعاف سعر الصرف الرسمي، في حين أن هذا الدعم كان يستنزف طوال المرحلة الماضية ما تبقى من السيولة المتأتية من أموال المودعين طوال المرحلة السابقة.

من الناحية العمليّة، لا يوجد خطة أو رؤية رسميّة لكيفيّة التعامل مع هذه المرحلة. فلا آليات الدعم البديلة حاضرة، ولا خطة توحيد أسعار الصرف وإلغاء أسعار الصرف المدعومة موجودة، ولا يوجد تصوّر لكيفيّة استعادة التحويلات الواردة من الخارج إلى النظام المالي، ما سيحوّل مرحلة رفع الدعم إلى صدمة معيشيّة واجتماعيّة صعبة، وخصوصاً على الفئات الأكثر هشاشة.
ومع ذلك، وجد القيمون على النظامين النقدي والسياسي طريقتهم للتمهيد لرفع الدعم وجعله أهون الشرور بالنسبة للمقيمين في لبنان، بما يمكن أن يجعل هؤلاء يتقبلون كل تداعيات هذه المرحلة المقبلة بمعزل عن أثرها على نمط حياتهم ومعيشتهم. وبذلك يصبح من الممكن تفادي انفجار شعبي في الشارع شبيه بما شهدته البلاد في تشرين الأول/أكتوبر 2019، في اللحظة التي يباشر فيها المصرف المركزي رفع الدعم عن الاستيراد.
ما جرى باختصار، لم يكن سوى تجفيف السوق تدريجيّاً من معظم أصناف السلع الأساسيّة المدعومة، والتي تشمل الدواء والمستلزمات الطبيّة والمحروقات على أنواعها، فيما تم تحييد القمح عن هذه العمليّة لاتصاله بمسألة الأفران والخبز التي لا يمكن العيش من دونها.
عمليّة التجفيف هذه جرت عبر تقنين المصرف المركزي لكل أشكال فتح الاعتمادات لصالح الشركات المستوردة، وصولاً إلى حد التوقف الكلي عن تمويل بعض أصناف الأدوية والمستلزمات الطبيّة.
أما السبب المعلن لهذه المسألة، فكان رفض المجلس المركزي للمصرف المس باحتياطات المصارف الإلزاميّة، التي تم إيداعها في المصرف كضمانة للمودعين.
وهكذا باتت آليات الدعم الحاليّة قاصرة عن تأمين أبسط مستلزمات السوق الحيويّة، ما مهّد لارتفاع صرخة بعض الشركات المستوردة المطالبة بمعالجة المسألة ولو كان الثمن رفع الدعم عن السلع التي تستوردها.

ومن الناحية العمليّة، سيكون رفع الدعم خلال المرحلة المقبلة مخرجا لأزمة شح المواد الأساسيّة وانقطاعها، على حساب أسعار هذه السلع التي سيتحمّل كلفتها المقيمون في لبنان في النهاية. وبذلك ستنطوي العمليّة بأسرها على ابتزاز مضمر: تأمين أبسط الحاجات اليوميّة في الأسواق، سيستلزم التسليم برفع الدعم، ولو دون أي خطّة تقي المقيمين من قسوة هذه الصدمة العنيفة.
على أي حال، يمكن للمرء أن يلقي نظرة سريعة على أحوال الأسواق ليفهم طبيعة هذا الابتزاز وحجمه. الصيدليات بدأت تقفل تباعاً، مع تناقص حجم الموجودات المتوفرة لديها وعدم تزويدها بالأدويّة. أما المستشفيات، فبدأت باتخاذ قرارات بالتقشّف باستعمال المستلزمات الطبيّة، عبر الامتناع عن تقديم الخدمات الطبيّة التي لا ترتبط بالحالات الطارئة. علماً أن الكثير من المستلزمات التي تُعنى بنوع محدد من العمليات الجراحيّة، والكثير من أدوية الأمراض المزمنة، باتت مقطوعة تماماً من الأسواق، فيما لجأ من يحتاجها إلى البحث عنها في الخارج مع تحمّل كلفتها بالدولار النقدي.
على صعيد أزمة المحروقات، ترك تقنين الاستيراد أثره على شكل طوابير طويلة أمام محطات الوقود التي استمرّت بالعمل، فيما أقفلت معظم المحطات لعدم وجود أي مخزون لديها.
أما أسوأ تداعيات هذه الأزمة، فكانت تقنين ساعات التغذية الكهربائيّة التي توفرها مؤسسة كهرباء لبنان إلى أقصى حد، لتقلّص مخزون الفيول المطلوب لتشغيل المعامل. فيما باشر أصحاب المولدات الكهربائيّة الخاصّة التقنين أيضاً، بالنظر إلى محدوديّة قدرتهم الإنتاجيّة وتراجع مخزون المازوت المتوفّر لتشغيل المولدات.
باختصار، لا يمكن تخيّل مشهد أكثر سوداويّة للتعبير عن القعر الذي وصلت إليه البلاد، في حين ثمّة من يتوقّع اليوم أن يتسع نطاق الكارثية ليشمل الكثير من الخدمات الحيويّة التي تعتمد على التغذية الكهربائيّة، كالاتصالات الأرضيّة والخليويّة والإنترنت مثلاً. وهذا النوع من الكوارث التي تطاول كل أوجه الحياة في لبنان، هو ما يبرر أي قرار يمكن أن تتخذه السلطات النقديّة أو السياسيّة للخروج من هذه الحالة، ولو كان هذا القرار رفع الدعم بأسلوب الصدمة الفجائيّة.
في كل الحالات، بدأ التمهيد لرفع الدعم أيضاً من خلال بعض تصريحات المسؤولين والخبراء الماليين الذين يدورون في فلكهم. هذه التصريحات، اعتبرت أن الشروع برفع الدعم مسألة ينبغي تقبّلها واستيعابها كما هي اليوم، لعدم عدالة تحميل النظام المالي وما تبقى من سيولة المودعين عبء تمويل استيراد السلع الأساسيّة لجميع المقيمين. كما اعتبرت بعض هذه التصريحات أن فكرة استمرار وجود أسعار متعددة للصرف، وتمويل استيراد السلع الأساسيّة بهذا الشكل، تُعد مسألة عبثيّة وغير مستدامة على المدى الطويل.

  

  

لكنّ المشكلة الأساسيّة في كل هذه التصريحات تكمن في تغاضيها عن التعامل مع جانب أساسي من المشكلة الموجودة، والمتمثّل بأسباب انهيار سعر صرف الليرة، التي تتعلّق بتسييل جزء كبير من خسائر النظام المالي.
فارتفاع سعر الدولار الفعلي في السوق مقابل الليرة، لم ينتج عن أزمة محدودة في ميزان المدفوعات كما هو الحال في الدول التي تعوّم سعر صرف عملتها، بل نتج عن سياسات نقديّة قامت منذ بداية الأزمة على طبع النقد للتعامل مع كثير من المشاكل، كتسديد الودائع المقومة بالعملات الأجنبيّة بالليرة اللبنانيّة، وتسديد ديون الدولة المترتبة لمصلحة المصارف.
وبذلك، يصبح من الواضح أن جانباً رئيسياً من الأزمة التي ستحمل وزرها الفئات الأكثر هشاشة بعد رفع الدعم، ترتبط بأزمة القطاع المالي نفسها والقرارات التي جرى اتخاذها. علماً أن هذه القرارات نفسها، تغاضت عن العمل على رؤية بديلة تكفل توحيد سعر الصرف بشكل مدروس ومتدرّج، وبآليات تضبط حجم السيولة المتداولة بالعملة المحليّة في الأسواق. ولهذا السبب، لا يمكن اعتبار رفع الدعم، بطريقة الصدمة القاسية التي تتم اليوم، مسألة بديهيّة ينبغي تقبلها بأي ثمن.

المساهمون