التفكير خارج صندوق البنوك المركزية

28 سبتمبر 2022
محل صرافة في القاهرة (getty)
+ الخط -

رفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي)، سعر الفائدة على أمواله للمرة الخامسة على التوالي يوم الأربعاء الماضي، بإجمالي رفع 3% منذ شهر مارس / آذار الماضي، فسارعت أغلب البنوك المركزية حول العالم إلى رفع الفائدة على عملاتها، أملاً في سحب السيولة الزائدة من الأسواق، ووضع حد للتضخم المتغول على المواطنين.

كانت التوقعات تشير إلى قيام البنك المركزي المصري برفع الفائدة يوم الخميس الماضي، بعدما رفعها بالفعل 3 % خلال ما يقرب من ستة أشهر، ضمن محاولاته المضنية، لا للسيطرة على التضخم، وإنما للدفاع عن الجنيه المصري في وجه الهجمة الشرسة التي تعرضت لها عملات العالم، حتى التي تتمتع دولها بفوائض في الميزان التجاري.

حاول البنك المركزي المصري إغراء المواطنين بالاحتفاظ بمدخراتهم بالجنيه المصري، من خلال رفع معدلات الفائدة الأساسية، وإصدار شهادات ذات فائدة مرتفعة، إلا أن ذلك لم يمنع الانخفاض التدريجي في سعر العملة المصرية، سواء على المستوى الرسمي داخل القطاع المصرفي، أو في السوق الموازية.

انتظرت السوق المصرفية، وأغلب البيوت المصرية التي أصبحت منخرطة كما لم يحدث من قبل في الشأن الاقتصادي، سماع قرار رفع الفائدة من البنك المركزي، وربما تخفيض سعر العملة أمام الدولار بصورة رسمية، إلا أن ذلك لم يحدث.
كنت أتمنى أن أقول إن عددا معينا صوّت لصالح رفع الفائدة، كما يحدث في أميركا وأوروبا والدول المتقدمة، حيث يمكن معرفة عدد من صوّتوا لصالح قرار السلطة النقدية ومن صوّتوا ضده، إلا أن ذلك لا يحدث في الحالة المصرية!

من المؤكد أن بعض أعضاء لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي كانوا مع رفع الفائدة، لكن يبدو أن وجهة النظر المنحازة لعدم تحميل الموازنة العامة للدولة مزيداً من الأعباء برفع الفائدة، كون الحكومة المصرية هي أكبر مقترض في البلاد، نجحت في إقناع أغلبية المصوتين بعدم الانجراف وراء البنوك المركزية الأخرى، التي حذت حذو البنك الفيدرالي ورفعت الفائدة على عملتها.

فكر البنك المركزي المصري خارج الصندوق، فاتخذ قرار رفع نسبة الاحتياطي الإلزامي للبنوك من 14% إلى 18%، وهو ما يعني سحبه للسيولة الزائدة في الأسواق، مع تحميل التكلفة للبنوك العاملة في مصر، من خلال إجبارها على الاحتفاظ بكميات أكبر من النقد لدى البنك المركزي، ودون الحصول على أية عوائد عليها.

لا شك أن القرار سيكون له تأثير على حجم السيولة المتاحة في الأسواق، وسيكون البنك قد ضرب عدة عصافير بحجر واحد، لكن الفائدة المرجوة للقرار لن تكتمل إلا إذا كان التضخم في مصر ناتجا عن زيادة الطلب على العرض، بسبب وجود سيولة زائدة في الأسواق، وهو ما لم يتم إثباته حتى الآن.

فقدت العملة المصرية أكثر من ربع قيمتها خلال ستة أشهر، فارتفعت كلفة الاستيراد، ثم زادت التكهنات، بما فيها ما جاء على القنوات الرسمية الداعمة للنظام الحالي، بمزيد من الانخفاض في قيمة العملة المصرية، فسَعَّر التجار بضائعهم على أساس سعر دولار يساوي على أقل تقدير 22 جنيها مصريا، بارتفاع يقترب من 13% مقارنة بالسعر الرسمي، فارتفعت التكلفة أكثر على المستهلكين، وارتفع التضخم المستورد، وإن لم يعلن عنه بصورة سليمة.

فقدت العملة المصرية أكثر من ربع قيمتها خلال ستة أشهر، فارتفعت كلفة الاستيراد، ثم زادت التكهنات، بما فيها ما جاء على القنوات الرسمية الداعمة للنظام الحالي، بمزيد من الانخفاض في قيمة العملة المصرية

فإذا كانت تلك طبيعة التضخم في السوق المصرية، فهل يمكن لرفع نسبة السيولة المطلوبة من البنوك أن تؤتي ثمارها في مكافحته إلا من خلال تجفيف الطلب تماماً، ومن ثم التسبب في دخول الاقتصاد في ركود؟ وهل ينجح رفع نسبة الاحتياطي الإلزامي في دعم الجنيه؟

الواقع يقول إن الحكومة المصرية غير معنية بحالة الضعف التي يبدو عليها الجنيه، ويبدو أن في جعبتها الكثير مما لا نعلمه، وإلا لما كانت فعلت كثيراً مما نراه حولنا، وكأننا دولة تعوم على بحر من العملات الأجنبية.

فلو كانت مشكلة عدم توفر العملة الأجنبية كبيرة كما نظن، فبالتأكيد لم تكن هناك حاجة للإصرار على بناء أكبر حديقة ترفيهية بالشرق الأوسط، بتكلفة تصل إلى 2.5 مليار دولار.

ولو كانت مشكلة عدم توفر العملة الأجنبية كبيرة كما نظن، لما أُجبر النادي الأهلي المصري لكرة القدم على التخلي عن عقد رعاية من شركة الطيران القطرية، كان سيدر عليه وعلى البلاد عشرات الملايين من الدولارات على مدار السنوات القليلة القادمة.

ولو كانت مشكلة عدم توفر العملة الأجنبية كبيرة كما نظن، لما انتشرت الإعلانات على مواقع التواصل الاجتماعي التي تعرض على المصريين قضاء عطلاتهم في تركيا أو دبي أو بعض الدول في جنوب شرقي آسيا، بأسعار سفر وإقامة وتنزه تقل عن تكلفة قضاء نفس الفترة في قرى الساحل الشمالي بنوعيه، الطيب والشرير.

ولو كانت مشكلة عدم توفر العملة الأجنبية كبيرة كما نظن، لما وُجِدَت فرص لشراء الهواتف الذكية، والحواسب الآلية، من بعض الدول الأخرى، سواء عن طريق أمازون أو عن طريق السفر والعودة، بتكلفة تقل عن السعر المتاح في مصر بالعملة المحلية، ويتم الترويج لها بهذه الكثافة على مواقع التواصل الاجتماعي.

ولو كانت مشكلة عدم توفر العملة الأجنبية كبيرة كما نظن، لما انتشرت العمليات المعروفة باسم "تجارة الشنطة"، التي يسافر فيها المصريون لشراء ملابس وأشياء أخرى من تركيا أو الإمارات أو لبنان، ثم يعودون لمصر لبيعها، محققين مكاسب طائلة.

ولو كانت مشكلة عدم توفر العملة الأجنبية كبيرة كما نظن، لما ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه للمصريين لاستخدام بطاقات الائتمان الصادرة لهم بالعملة المحلية للشراء من المتاجر الأجنبية من خلال الإنترنت، بسعر يقل بنسبة كبيرة عن سعر الدولار في السوق الموازية، حتى بعد إضافة تكلفة توفير العملة الأجنبية والمقدرة بنحو 3%.

ولو كان كل ذلك يحدث بينما العالم يرى أننا نعاني لسداد ما علينا من ديون خارجية، فلا بد أن البنك المركزي يعرف شيئاً لا نعرفه جميعاً، وسيفاجئنا به قريباً إن شاء الله.

المساهمون