يواجه الجنيه مصيرا مؤلما، تدفعه رغبة حكومية جامحة بمزيد من الضغط عليه لخفض قيمته، أمام الدولار والعملات الصعبة، لجمع أموال قادرة على إخراج البلاد من أسوأ أزمة اقتصادية تمر بها منذ عقود.
تبث الحكومة أنباء الفوز بقرض جديد من صندوق النقد الدولي، يبلغ 9.2 مليارات دولار، مع وعود بتدفق مزيد من قروض البنك الدولي، وحصيلة بيع أصول عامة، لجمع حصيلة تصل إلى 45 مليار دولار خلال 2024، تساعدها في إعادة الهيبة المفقودة للجنيه، وتوفير الدولار اللازم لشراء احتياجات المواطنين من الغذاء والدواء والسلع الأساسية، التي شحت بالأسواق.
تعد الحكومة التي وافقت على قرار البنك المركزي بخفض جديد للجنيه أفقده 60% من قيمته خلال ساعات منذ ظهر الأربعاء الماضي، المواطنين بمزيد من الاستقرار المالي والتفاؤل بالمستقبل.
ألقى البنك المركزي عسلا مسموما بأفواه المتعاملين مع البنوك، حينما وافق على رفع معدل الفائدة بـ 600 نقطة دفعة واحدة، مع السماح للبنوك بإصدار شهادات ادخار بعائد 30%، في وقت فقدت ودائع المصريين، البالغة 14 تريليون جنيه، 60% من قيمتها خلال ساعات التعويم الأولى، مدفوعة بتراجع الجنيه مقابل الدولار من مستوى أقل من 31 جنيها للدولار إلى 50.50 جنيها.
تشهد الأسواق استقرارا في أسعار السلع عند مستوياتها المرتفعة المتأثرة بسعر دولار بأكثر من 70 جنيها في السوق السوداء، مع اكتفاء الموردين بالعمل على خفض الأسعار خلال فترة تتراوح ما بين شهر و3 أشهر، لحين تأكد المستوردين من قدرتهم على تمويل صفقاتهم الجديد من البنوك، ووصول المنتجات المكدسة بالموانئ للمخازن.
تسبب التعويم الجديد في تراجع القوة الشرائية للجنيه بنسبة 60%، دفعة واحدة، مساء الأربعاء، بما يرفع نسبة التدهور في قيمة الجنيه إلى 80% منذ التعويم الكبير في إطار اتفاق أول مع صندوق النقد الدولي لإصلاح اقتصادي هيكلي، طبقته الحكومة في أكتوبر/ تشرين الأول 2016، مع ارتفاع الدولار من 8.8 جنيهات إلى 15.7 جنيها ثم لأكثر من 20 جنيها في بداية عام 2017.
وأعلن رئيس مصلحة الجمارك الشحات الغتوري أن سعر الصرف الساري بالبنك المركزي، أصبح السعر المعلن على نظام التعرفة بالجمارك، منتصف ليلة أمس الخميس، وتغييره يوميا وفقا لأسعار "المركزي".
يرفع القرار تكلفة جميع الواردات من سلع ومستلزمات إنتاجية بالموانئ البحرية والجوية، من بينها سلع متأخر الإفراج عنها منذ عدة أشهر، اشتراها المستوردون بدولار وصلت قيمته أعلى من 70 جنيها.
تراجع متوسط سعر الدولار عند نحو 49.7 جنيها للدولار في البنوك ظهر أمس، من مستوى 50.50 جنيها ظهر الأربعاء، بينما هبط في السوق الموزاية من متوسط 54 إلى 52 جنيها، لنفس الفترة، يفسره محللون بأن تحديد سعر الصرف مازال غير مرن وفقا لآلية العرض والطلب، وإنما يخضع لضوابط "سعر الصرف المدار"، والقيود الأمنية المشدد على سوق الدولار الموازية، وتجار الذهب.
ورصدت "العربي الجديد" إرجاء عدد من شركات الطيران للرحلات المستقبلية، تحديد سعر تذاكر السفر بالجنيه، لحين استقرار سعر الصرف بالبنوك.
قال اقتصاديون لـ "العربي الجديد" إن الأسواق تتجه إلى الركود في ظل تراجع القوة الشرائية للمواطنين بمعدلات عالية خلال العامين الماضيين، بعد أن تعرض الجنيه للتعويم 4 مرات متتالية، تظهر آثارها السلبية بشدة على أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة، الذين يعتمدون على مواردهم الذاتية والقروض عالية التكلفة، في تمويل عمليات التشغيل.
يشير الخبراء إلى أن ارتفاع سعر الفائدة بالبنوك، مع تراجع الجنيه مقابل العملات الحرة، سيؤدي إلى عدم قدرة القطاعات الصناعية والعقارية والزراعية على العمل ولعدم قدرة المنتجين على التعامل والحصول على قروض منخفضة التكلفة، وصعوبة توليد العمليات الإنتاجية أرباحا قادرة على سداد تلك الفوائد الهائلة.
صنف محللون معدلات الفائدة المرتفعة بمصر بين أعلى 10 معدلات لأسعار الفائدة عالميا، لتصبح في المرتبة السابعة، بعد أن وصل سعر الفائدة بالبنك المركزي إلى 27.25%.
ويتوقع المحللون أن يواصل الدولار والذهب ارتفاع أسعارهما في الأيام المقبلة، متأثرة بتفضيل حائزي الدولار الاستمرار في اكتنازه، مع زيادة الطلب من جانب الموردين، ولحين انكشاف الأجواء الضبابية التي تحيط بإدارة صفقات بيع الأصول العامة والقروض المتوقعة من الشركاء الدوليين.
كما يتخوف الخبراء من لجوء الحكومة إلى رفع أسعار الوقود خلال أيام، ومواصلة زيادة قيمة فواتير والكهرباء وخفض قيمة الدعم المالي المخصص للعديد من السلع والخدمات العامة، بينما ستشهد السلع الأساسية التي تستورد معظمها من الخارج، موجات غلاء جديدة.
يسود القلق من ألا يكون هذا التعويم هو الأخير من نوعه، في ظل اعتماد الدولة على تسعير الجنيه وفقا لقوة الدولار بالسوق دون أن يكون لدى الحكومة القدرة على توليد الدولار، لاعتماد الصناعات المحلية على شراء معظم مستلزمات الإنتاج من الخارج، ودفعه إلى زيادة الدين العام.
يقول اقتصاديون إن خفض الجنيه أدى إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة هبوطه أول من أمس، بما أدى إلى خفضه إلى نحو 240 مليار دولار، وأن الدولة تحتاج إلى نحو 10 سنوات لاستعادة نفس القيمة والتي بلغت 470 مليار دولار، التي كان عليها قبل التعويم الجديد، والذي رفع لحظيا قيمة مستحقات الشركاء الأجانب من عوائد توزيع الأرباح جراء الديون المتأخرة على الحكومة والتي تصل إلى 7 مليارات دولار.
يقول الخبير المالي والقيادي بحزب الوفد الليبرالي محمد الشافعي إن تعويم الجنيه أفقد المصريين 60% من مدخراتهم دفعة واحدة، مشيرا إلى أن التراجع الهائل بقيمة الجنيه المواطنين يدفع إلى الوقوع في شرك تضخم متصاعد، لن تتم السيطرة عليه بسهولة، ليتحول إلى قنبلة موقوتة مهددا باستمرار موجات الغلاء لأعوام.
يعترف وزير المالية محمد معيط في بيانه المالي أمام البرلمان في شهر يونيو/ حزيران الماضي، أثناء مناقشة موازنة 2023-2024، بأن رفع زيادة الفائدة بمعدل 1% يرفع تكلفة الإقراض على الدين العام بنحو 70 مليار جنيه، بما يؤثر سلبا على عجز الموازنة.
نفذت الحكومة قرار التعويم قبيل ساعات من اتفاق مخطط مع صندوق النقد الدولي، ومجموعة الدول الخليجية والمؤسسات الدولية الداعمة للنظام، أسفرت عن صفقة بيع مدينة رأس الحكمة بالساحل الشمالي لصندوق الإمارات السيادي بمبلغ 35 مليار دولار، مع وعود بضخ قروض من الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي، لمساعدة الحكومة في مواجهة أسوأ أزمة اقتصادية، تهدد باضطراب بحالة اضطراب اجتماعي.
إلى ذلك، قالت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، في تدوينة عبر حسابها الرسمي على منصة" إكس": هذه خطوة مهمة في شراكتنا القوية المستمرة مع مصر، نحن ملتزمون بالمساعدة في استقرار وتعزيز الاقتصاد لصالح الشعب المصري".
ويؤكد خبراء أن قرار تخفيض الجنيه فرضه صندوق النقد الدولي على الحكومة والبنك المركزي، لتمرير قرض بقيمة 8 مليارات دولار، مع استهداف قرض تكميلي قيمته 1.2 مليار دولار، تستخدمه في استكمال برنامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد.
تستهدف الحكومة برفع أسعار الفائدة على الودائع والسندات، جذب الأموال الساخنة التي خرجت من البلاد في شهر فبراير/ شباط 2022، جراء الحرب في أوكرانيا، بنحو 22 مليار دولار خلال شهرين، بما يمثل تراجعا عن اتجاه الحكومة لعدم الاعتماد على الأموال الساخنة باعتبارها أحد مصادر الاستثمار الأجنبي المباشر التي يمكن أن تعرض البلاد لأزمة مفاجئة، تدفع الاقتصاد إلى أن يصبح أكثر هشاشة في مواجهة الكوارث وحالة الاضطراب الجيو- سياسي الإقليمية والدولية.
يقول الخبير المالي والقيادي بحزب الوفد الليبرالي محمد الشافعي إن تعويم الجنيه أفقد المصريين 60% من مدخراتهم دفعة واحدة
ويذكر الخبير الاقتصادي على الإدريسي لـ"العربي الجديد" أن تأخير تعويم الدولار أدى إلى زيادة الآثار السلبية المترتبة على تخفيض قيمة العملة، حيث زاد الحد المتوقع عن تحرير سعر الصرف خلال الفترة من يوليو/ تموز 2024 إلى مارس/ آذار 2024، من مستوى متوقع عند 34 جنيها للدولار إلى نحو 50 جنيها حاليا.
كما تعتبر جمعية رجال الأعمال المصريين القرار خطوة حتمية ومهمة في مسار الإصلاح الاقتصادي، منوهة إلى ضرورة أن تتبع بإجراءات تستهدف استعادة استقرار السياسة المالية، بترشيد الإنفاق الحكومي لأقصى درجة لتخفيف الضغط المنتظر حدوثه على الموازنة العامة، جراء تحرير سعر الصرف ورفع الفائدة.
وطلبت الجمعية في بيان لرئيسها على عيسى، الحكومة بضرورة استحداث مبادرات تمويلية جديدة للقطاعات الإنتاجية، وبخاصة الصناعية والزراعية، والسياحية، لتحسين قدرتها على مواجهة أعباء التضخم، ورفع الأعباء التي يواجهها المستثمر من أجل زيادة حصة القطاع الخاص في الناتج المحلي.
في غضون ذلك، تعتبر قيادات بنكية تحرير سعر الصرف فرصة لزيادة حصيلة البنوك من العملات الأجنبية وتلبية احتياجات العملاء، مع بيع فائض المبيعات للجمهور.
ويؤكد سكرتير شعبة النقل بالغرفة التجارية عمر السمدوني، في بيان أن تحرير سعر الصرف سيساهم في توفير الدولار بالبنوك ويحد من توجه الجمهور للتعامل به في السوق السوداء والامتناع عن تخزينه، بما يوفر حصيلة كبيرة من الدولار تساهم في الإفراج عن البضائع والسلع والخامات المتراكمة في الموانئ ويعيد الاتزان للأسواق ويحد من ارتفاع الأسعار، وتوفير السلع.
في المقابل، يعرب اقتصاديون عن خشيتهم من أن يؤدي التشدد النقدي إلى نفس النتيجة التي تصل إليها سياسات الحكومة في معالجة أزمة اقتصادية طاحنة، مؤكدين أن المشكلة ليست قاصرة على إطلاق سعر الدولار مقابل خفض الجنيه، لكن قدرة الاقتصاد على توليد العملات الصعبة.
ويؤكد خبير التمويل والاستثمار وائل النحاس تلك المخاوف، بتأكيده على أن سياسات الحكومة أدت إلى أزمة الدولار، منوها إلى أن من يشارك في صناعة الأزمة لا يمكن أن يكون طرفا في حلها.
يقول النحاس لـ"العربي الجديد" إن مصر تتعرض لأزمة فقر في إدارة الموارد الدولارية، وأن الأمر يحتاج إلى استعادة الثقة المفقودة في قدرة الحكومة على إدارة تلك الموارد بما يحمي الفقراء، ويوفر الضمانات لدفع معدلات الاستثمار المحلي والأجنبي، وإزالة حالة الضبابية التي تتعامل بها المجموعة الاقتصادية، في إدارة سعر الصرف والقروض وتسهيلات المستثمرين التي تصيب الأسواق بالشلل وتنشر حالة من الضبابية لنقص المعلومات.
يفترض اقتصاديون أن القضاء على السوق السوداء للدولار أمر مستحيل، على المستوى المنظور، في ظل عدم قدرة الحكومة على تدبير احتياجات الطلب المتصاعد من جانب المستثمرين والموردين والمواطنين من العملة الصعبة، مطالبين بفترة انتظار تطول ما بين شهر وشهرين، للحكم على قدرة البنك المركزي والحكومة على إدارة المشهد الاقتصادي بعد التعويم الجديد.