في الوقت الذي يتركز فيه اهتمام العالم على توالي ظهور متحور أوميكرون في البلدان المختلفة، وما يتسبب فيه من إعادة لفرض القيود على التجمعات والسفر والأعمال فيها، يتعرض الاقتصاد العالمي، كما الاقتصاد الوطني لكل دولة، إلى ضغوط متزايدة، يساهم فيها بدرجات مختلفة ارتفاع معدل التضخم في تلك الدول، كما إعلان بنك الاحتياط الفيدرالي "البنك المركزي الأميركي" بدء تقليص مشترياته من السندات، ومن ثم اقترابه من رفع معدلات الفائدة على أمواله، بالإضافة إلى تباطؤ النمو الاقتصادي في الصين، الأمر الذي يزيد من التحديات التي تواجهها الاقتصادات الفقيرة والناشئة، مع غياب رؤية واضحة للتعامل مع تلك التحديات.
وقبل ما يقرب من عشرين شهراً، ومع تيقن البنك الفيدرالي من انتشار فيروس كوفيد-19 في الأراضي الأميركية، وتوقع حدوث ملايين الإصابات، كانت أسواق الأسهم والسندات تتلقى الضربة تلو الأخرى، لتخسر المؤشرات الرئيسية ما يقرب من ثلث قيمتها، وتعاود الذكريات الأليمة المرتبطة بالأزمة المالية العالمية في 2008 – 2009 زيارة مستثمري السندات، فتلوح أمام أعينهم مليارات الدولارات التي فقدوها وقتها.
لم يقف البنك الفيدرالي وقتها عاجزاً، ولم ينتظر يوم الأربعاء المحدد للإعلان عن تغيير معدلات الفائدة، وإنما اتخذ قراراً نادراً بتخفيض معدل الفائدة على أمواله إلى صفر بالمائة في يوم أحد لا ينظر فيه عادة أغلب المتعاملين في الأسواق المالية في أجهزة الحاسب الآلي أو الهواتف المحمولة الخاصة بهم، ولا يفتحون بريدهم الإلكتروني، ولا تذيع فيه المحطات التليفزيونية الاقتصادية إلا برامج مسجلة ومعادة، ينصرف معها أغلب الأميركيين إلى متابعة فيلم على شوتايم أو مسلسل على نتفليكس.
ولم يكتف البنك الفيدرالي بسحق معدلات الفائدة، وإنما أعلن نيته استخدام كل ما بحوزته من أدوات، بما فيها تطبيق برامج التيسير الكمي وشراء السندات من السوق الثانوية، لمنع البلاد من الدخول في أزمة مالية كبرى على غرار ما حدث في 2008.
ومع اقتراب الاقتصاد الأميركي، خلال الفترة التي مضت من عام 2021، من استعادة قوته وإنتاجه ووظائفه، ومع ارتفاع معدل التضخم بصورة واضحة، بدأ البنك الفيدرالي في إنهاء برامج التيسير الكمي، ليستعد لرفع معدل الفائدة على أمواله، أملاً في كبح جماح التضخم، الذي لو استمر على ارتفاعه خلال العام المقبل، فربما يتسبب في محو كل ما تم من إنجازات اقتصادية خلال الشهور العشرين الأخيرة، وقد يتسبب في نتائج كارثية في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس قرب نهاية 2022، أو انتخابات الرئاسة في 2024.
لا يعد رفع معدلات الفائدة في الولايات المتحدة خبراً جيداً للاقتصادات الناشئة والنامية، ويعني في أغلب الأحيان انخفاض حجم الاستثمارات الموجهة إليها، وربما انسحاب بعض ما هو موجود فيها حالياً، الأمر الذي يجعل مسؤولي البنوك المركزية في تلك الدول يجلسون حالياً في انتظار إشارة من البنك الفيدرالي ليبدأوا رحلة رفع معدلات الفائدة على عملاتهم، في محاولة للدفاع عنها، وحماية الاستثمارات الأجنبية التي لديها، وعلى رأسها بالتأكيد الأموال الساخنة.
وعلى الناحية الأخرى من الكوكب، كانت التأثيرات السلبية لعام الجائحة، والممتدة حتى الآن، على الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، شديدة الوضوح، حيث تراجع معدل النمو الاقتصادي بصورة مفاجئة ولم يستعد من قوته حتى الآن إلا قليلاً، وتسببت أزمة مطور العقارات الشهير إيفرغراند وديونه في ارتباك السوق الصينية العقارية والمالية والصناعية.
ولما كانت الصين المستورد الأكبر في العالم للنفط والمعدات الرأسمالية، كما العديد من السلع، والمستهلك الأكبر فيه للفحم والألومنيوم واللحوم والقطن وفول الصويا، والعديد من السلع الأخرى، فقد يسبب تباطؤ الاقتصاد الصيني العديد من المشكلات للاقتصادات الناشئة والنامية، خاصة فيما يتعلق بتراجع صادرات تلك الدول إليها، بالإضافة إلى انخفاض تدفق الاستثمارات الصينية لتلك الاقتصادات.
وحتى هذه اللحظة، يتوقع صندوق النقد الدولي نمو الاقتصاد الصيني العام المقبل بمعدل 5.6%، وهو أقل معدل نمو لثاني أكبر اقتصاد في العالم في أكثر من ثلاثة عقود، باستثناء عام الجائحة 2020، ولا يخفي الصندوق حقيقة أن رفع معدلات الفائدة الأميركية سيزيد من معوقات نمو الاقتصاد الصيني.
ولمعرفة تأثير التغيرات السابقة على البلدان المختلفة، جمعت مجلة الإيكونوميست بيانات لعدد من متغيرات الاقتصاد الكلي الرئيسية لستين اقتصاداً كبيراً، غنياً ونامياً، وأوضحت ما قد يسببه رفع معدلات الفائدة الأميركية من زيادة عجز الحساب الجاري، وتضخم عجز الموازنة، والوصول بالدين إلى مستويات خطرة، وبصفة خاصة الديون قصيرة الأجل المستحقة للأجانب، والتضخم، وعدم كفاية احتياطيات النقد الأجنبي في هذه الدول.
ورتبت الإيكونوميست أيضاً الدول بحسب صادراتها إلى الصين، مشيرةً إلى أن الدول التي تصدر لها ما يدخل في سلاسل الإمداد اللازمة للتصنيع لن تتضرر طالما استمر المواطن الأميركي في شراء المنتجات الصينية، بينما يكون الضرر الأكبر للاقتصادات النامية التي تصدر مواد أولية للصين، يتم استخدامها في البناء، أو أغذية يأكل منها أكثر من 1.4 مليار صيني.
نجت مصر من الجزء الخاص بالتصدير للصين، بسبب عدم وجود صادرات تذكر، ولكنها جاءت ضمن أعلى الدول في ما أطلقت عليها الإيكونوميست "مؤشر الضعف"، وخاصة في الجزء الخاص بالتضرر من رفع معدلات الفائدة الأميركية، حيث لم تتجاوزها إلا الأرجنتين واليونان. وأشارت الإيكونوميست أيضاً إلى صعوبة موقف كل من تركيا وأستراليا وتشيلي والبرازيل وباكستان بخلاف الدولتين.
رفع معدلات الفائدة الأميركية المنتظر قبل نهاية العام المقبل، وارتفاع العائد على سندات الخزانة الأميركية مع بدايته، سيخطف الكثير من استثمارات الأجانب في أدوات الدين بالجنيه المصري، ويضغط على احتياطي النقد الأجنبي والعملة المصرية، وسيرفع تكلفة الاقتراض من الخارج بالدولار، وسيزيد من عجز الموازنة ويصعب النمو الاقتصادي، وربما يتطلب الأمر أكثر من رفع معدل الفائدة على الجنيه المصري، فهل نحن مستعدون، أم سيكون ذلك مبرراً لبيع المزيد من الأصول التي يصعب تعويضها؟