طرحت كتلة الخط الوطني السيادي في برلمان تونس مجدداً ملف استقلالية البنك المركزي للنقاش بعد إيداع مشروع قانون يهدف إلى إعادة النظر في بنود قانون النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي المصدَّق عليه عام 2016 تقضي بفتح باب الاقتراض المباشر للدولة من خزينة مؤسسة الإصدار النقدية.
ويضع برلمانيون تعديل القانون الأساسي للبنك المركزي ضمن خطة الإصلاحات الاقتصادية العاجلة التي تحتاجها البلاد في إطار معاضدة الجهود الحكومية على تعبئة موارد مالية لفائدة الموازنة بأقل كلفة ممكنة، في ظل ارتفاع نسب الفائدة على القروض الممنوحة للدولة محلياً ودولياً.
وتقترح كتلة الخط الوطني السيادي ضمن مشروع القانون المطروح على النقاش صلب البرلمان كبح استقلالية البنك المركزي عبر منح الحكومة حق النفاذ إلى خزينة البنك من أجل الحصول على قروض مباشرة لفائدة الموازنة بقيمة لا تتجاوز الـ5 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي أو 20 بالمائة من معدل إيرادات الميزانية للسنوات الثلاث التي تسبق عملية الاقتراض.
اقتراض مشروط
وقال رئيس كتلة الخط الوطني السيادي عبد الرزاق عويدات في تصريح لـ"العربي الجديد" إن مشروع القانون لا يفسح المجال أمام التمويل المباشر من البنك المركزي دون قيود، مؤكداً أن هذا الاقتراض سيكون مشروطاً بمدة سداد لا تتجاوز 12 شهراً كحدّ أقصى.
وأكد عويدات أن الغاية من مشروع القانون، تنويع مصادر التمويل المباشر للموازنة دون إثقال كاهل الدولة بمزيد من خدمات الدين والفوائد التي تفرضها البنوك المحلية مقابل مشاركتها في تمويل الموازنة عبر قروض تصل نسبة فائدتها إلى أكثر من 8 بالمائة.
واعتبر المتحدث أن أموال البنك المركزي لن تكون متاحة مباشرةً للدولة عبر التنقيحات المقترحة، تجنّباً لتداعياتها التضخمية، حيث ستُحدَّد عملية الاقتراض المباشر من حيث القيمة ومدة السداد.
وأضاف: "مشروع القانون لا يهدف إلى المسّ باستقلالية البنك المركزي الذي سيحافظ على دوره في رسم السياسات المالية وإدارتها بشكل كامل".
وأشار عويدات إلى أن مشروع القانون أخذ بالاعتبار المخاطر التضخمية التي قد تنتج من التمويل المباشر للبنك المركزي لميزانية الدولة، ومن أجل ذلك، قُيِّدَت المبالغ ومدة السداد تفادياً للتضخم الناجم عن زيادة الكتلة النقدية المتداولة.
واعتبر رئيس الكتلة أن مشروع التنقيح المعروض على النقاش يهاجم من قبل ما وصفه بـ"لوبي البنوك" الذي يستفيد من تحقيق أرباح مالية كبيرة من إقراض الدولة دون القيام بدوره الأساسي في تمويل الاقتصاد والأفراد.
زيادة أرباح البنوك
ووفق تقرير أصدرته منظمة ألارت (مستقلة) في شهر يونيو/ حزيران الماضي، زادت أرباح البنوك المتأتية من إقراض الدولة التونسية طويل المدى بنسبة 58 بالمائة طوال العقد الأخير، لكن هذه البنوك قد تواجه مخاطر على مستوى الأموال الذاتية، في حال تعثر الدولة عن السداد.
وكشفت منظمة ألارت، أن إجمالي حجم الخزينة القابلة للتنظير (الاستخدام) التي تمت تعبئتها كأداة تستخدمها البنوك لإقراض الدولة على المدى الطويل، ناهز 24 مليار دينار، أي ما يزيد على 7 مليارات دولار خلال الفترة 2011-2022، وارتفع مردودها إلى 13.8 مليار دينار، ما يعادل 4.2 مليارات دولار.
وتأتي مطالب إعادة النظر في قانون البنك المركزي التونسي بعد 7 سنوات من حصوله على الاستقلالية التامة عن السلطة التنفيذية بمقتضى قانون أقره البرلمان في إبريل/ نيسان 2016. وصدّق البرلمان التونسي على القانون حينها، بعد أن دافعت الحكومة عن خياراتها عبر منح البنك مزيداً من الاستقلالية لتعزيز أدائه، والنأي به عن أي تجاذبات سياسية محتملة.
وبمقتضى قانون 2016، لم يعد مسموحاً للحكومة إصدار أي تعليمات للبنك المركزي، كما حصل على السلطة المطلقة في ضبط السياسة النقدية، والإنفاق والتحكم في الاحتياطي النقدي، والتصرف في الذهب.
ونص القانون أيضاً على تأسيس هيئة للرقابة والتصرف في الأزمات تتولى إصدار التوصيات، وحماية الاقتصاد الوطني من الآثار المحتملة التي قد تترتب عن أي اضطرابات في الاقتصاد العالمي.
ويواجه البنك المركزي التونسي انتقادات بسبب الزيادات المتتالية في نسبة الفائدة الرئيسية التي صعدت إلى 8%، بعد آخر تعديل أقره في يناير/ كانون الثاني الماضي، وذلك بزيادة 75 نقطة أساس (0.75%).
مخاطر ضرب الاستقلالية
لكن المدير العام السابق للسياسات النقدية محمد سويلم، حذّر من خطر الانسياق وراء مشاريع استهداف استقلالية البنك المركزي، مؤكداً أن هذه المشاريع لا تستند إلى أي أسس علمية أو مالية، لكن ذات أغراض سياسية بامتياز.
وقال سويلم في تصريح لـ"العربي الجديد" إن النفاذ المباشر إلى التمويلات من خزينة البنك المركزي يؤدي إلى فقدان المؤسسة المالية القدرة على التحكم في الكتلة المالية، ما يؤدي إلى ارتفاع في التضخم تصعب السيطرة عليه لاحقاً.
وأكد المتحدث أن من المهام الأساسية للبنوك المركزية إدارة وتطوير الأسواق المالية عبر آليات صارمة وفقاً لمعايير دولية يتم في ضوئها تصنيف مؤسسات إصدار النقد من قبل وكالات التصنيف الائتماني.
وتابع: "الحكومات مطالبة بالاحتكام إلى آلية السوق لتمويل عجز موازناتها، وهو ما يفرض عليها الانضباط في إدارة المالية عبر إيجاد حلول لتخفيض النفقات أو زيادة الإيرادات دون اللجوء المكثف إلى الاقتراض من الأسواق المالية المحلية أو الخارجية".
وأشار سويلم إلى أن كل الدول التي تدخلت في سياسات بنوكها المركزية عبر فرض التمويل المباشر أو تحديد نسب الفائدة، سببت فقدان السيطرة على الكتلة النقدية وانفجار التضخم الذي ينجر عنه إنهاك للطبقات الضعيفة والمتوسطة.
وفي مقابل تخوفات المحللين من فقد البنك المركزي استقلاليته في ظل الاضطرابات السياسية التي تشهدها تونس، قال وزير الاقتصاد والتخطيط سمير سعيد لوكالة بلومبيرغ الأميركية، قبل أسابيع، إن حكومة بلاده ليست لديها نية لتغيير النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي، أو العبث باستقلاليته، مضيفاً: "ما يقال عن تقليص صلاحيات البنك المركزي كلام فارغ. ستبقى استقلالية البنك المركزي محترمة، كما هي دون أي تعديلات".
تعبئة موارد الميزانية
وتلجأ حكومة تونس بشكل مكثف للسوق الداخلية من أجل تعبئة موارد لفائدة الموازنة أو إعادة جدولة ديون حل أجلها، كذلك وقعت في مايو/ أيار الماضي اتفاق تعبئة موارد بالعملة الصعبة بقيمة 400 مليون دينار، أي نحو 133 مليون دولار، حُصِّلَت من 12 مصرفاً محلياً.
وتمكنت تونس منذ بداية العام الحالي من تعبئة أقساط مهمة من القروض الداخلية، وسداد ديون حل أجلها لدى المصارف التونسية، لكن عليها دفع ما يزيد على 240 مليون دولار في أكتوبر/ تشرين الأول القادم، ثم 130 مليون دولار في نوفمبر/ تشرين الثاني و99 مليون دولار في ديسمبر/ كانون الأول لفائدة المقرضين.
وما زالت تونس يحدوها الأمل في الحصول على دعم طال انتظاره من صندوق النقد الدولي، على الرغم من استمرار المخاوف حيال مدى التزامها أي برنامج، في ظل الانقسام السياسي، ولا سيما أن الرئيس التونسي قيس سعيّد يرفض أي إصلاح يمكن أن ينال من الطبقات المتوسطة والضعيفة، حسب تعبيره.
وتحتاج تونس وفق موازنة 2023 إلى ما لا يقل عن 5 مليارات من القروض الخارجية لدعم الموازنة التي تشكو عجزاً يزيد على 5%.
وتوصلت تونس التي تعاني أسوأ أزمة مالية تهدد بتخلف البلاد عن سداد ديونها، إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد في سبتمبر/ أيلول الماضي، غير أنها لم تنجح في توقيع اتفاق نهائي يفتح لها الأبواب نحو تمويلات خارجية إضافية.
وتعاني تونس من ثقل الدين الخارجي الذي يستحوذ على ثلث الموازنة، بعد أن ارتفع حجم سداد أصل الدين بفارق تجاوز 5.7 مليارات دينار مقارنة بسنة 2022، ما سبّب زيادة حاجات التمويل التي تحتم تنمية موارد اقتراض خارجية وداخلية حددتها موازنة 2023 بأكثر من 23 مليار دينار، أي نحو 7.6 مليارات دولار.