يثير ارتفاع العائد على سندات الخزانة السيادية الأميركية وأدوات الدين الصادرة عن حكومات الدول الغربية العديد من المخاطر على الاقتصادات الغربية والنظام المالي العالمي برمته، في ظروف عدم اليقين السياسي والحرب الأوكرانية والعقوبات الغربية والتوتر المتزايد بين واشنطن وبكين. وحتى الآن، تسببت الفائدة المرتفعة على الدولار في زيادة عائد سندات الخزانة الأميركية بمستويات لم تكن في حسبان أسواق المال الدولية وبنوك الاستثمار، من 2% في بداية العام 2022 إلى فوق 4.8% حالياً.
وحسب مؤشر"بانك أوف أميركا"، لامس عائد سندات الخزانة الأميركية أجل 10 سنوات أعلى مستوى له منذ العام 2007، كما استقر عائد السندات لأجل عامين قرب أعلى مستوياته منذ العام 2006.
وربما يكون التركيز حالياً على السندات الأميركية وتداعياتها على المصارف والاقتصاد العالمي بسبب سوقها الواسع والعميق، الذي تستثمر فيه فوائض مالية تفوق قيمتها 45 تريليون دولار من قبل الحكومات والصناديق السيادية والشركات، ولكن ارتفاع عائد السندات لا تقف تداعياته على السوق الأميركية وإنما تمتد لتشمل جميع الاقتصادات العالمية، وربما يهدد الارتفاع بالركود الاقتصادي وإفلاس بعض المصارف مثل ما حدث في أميركا خلال مارس/آذار الماضي وفق مراقبين.
وحتى الآن، تكبدت المصارف خسائر ضخمة في أميركا وأوروبا من ارتفاع عائد السندات. وحسب بيانات "فاينانشال تايمز"، فقد قدرت الخسائر الدفترية التي تكبدتها البنوك الأميركية حالياً في سوق السندات قرابة 400 مليار دولار. وهذه الخسائر أعلى بنسبة 10% عن تلك التي تكبدها النظام المصرفي الأميركي في بداية العام الجاري، وتسبب في انهيار مصرف "سيلكون فالي".
وفي بريطانيا، جرى تعليق تداول أسهم "مترو بنك" البريطاني المدرج في بورصة لندن، لفترة وجيزة، مرتين، في التعاملات المبكرة أمس الخميس، بعد تراجع أسهمه بأكثر من 29 بالمئة عن إغلاق الأربعاء، بعد تقارير عن أن البنك البريطاني يستكشف خيارات لجمع تمويلات تقدر بنحو 600 مليون جنيه إسترليني (728 مليون دولار) من الديون والأسهم لتعزيز موارده المالية.
وفي نيويورك، نصح الملياردير الأميركي بيل غروس المستثمرين بتجنب الاستثمار طويل الأجل في الأسهم والسندات، رغم اعتقاده أن السندات أفضل من الأسهم.
وقال غروس، مؤسس شركة "بيمكو" لإدارة الأصول المشهورة، في مذكرة يوم الأربعاء: "سأتجاهل الأسهم والسندات من حيث إجمالي العائدات المستقبلية". وأضاف غروس قائلا إن ارتفاع عوائد سندات الخزانة يعني أن الأسهم تبدو مبالغًاً فيها بناءً على أرباحها الآجلة.
وعادة ما يقود ارتفاع الفائدة المصرفية في البنوك إلى تراجع أسعار السندات وأدوات الدين الحكومية، وذلك ببساطة لأن السندات ذات عائد ثابت، وبالتالي تتراجع قيمتها الحقيقية كلما ارتفعت الفائدة المصرفية. ويقود ذلك تلقائياً إلى أخطار التخلف عن السداد لدى الشركات الضعيفة والدول الناشئة التي لديها ديون ضخمة بالعملات الصعبة.
ومنذ 30 يونيو/حزيران الماضي، ارتفع العائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات من 3.818% إلى 4.572%، حسب مؤشر بلومبيرغ للسندات، الذي يتكون إلى حد كبير من سندات الخزانة وأوراق القروض العقارية المدعومة من الحكومة. ويذكر أن مخاطر سوق العقارات العالمية تتزايد مع ارتفاع كلف الدين وأسعار الفائدة المصرفية.
لماذا ارتفعت عائدات السندات في الآونة الأخيرة؟
وفق مديري أموال، فإن التوقعات بارتفاع أسعار الفائدة يؤدي إلى انخفاض أسعار السندات، لأن المستثمرين يشعرون بالقلق من أن السندات التي ستطرح في المستقبل ستدفع كوبونات أو معدل فائدة سنوي أكبر من السندات الحالية، وبالتالي تتزايد عمليات البيع وبكثافة، وهذا بدوره يؤدي إلى ارتفاع العائدات لجذب المستثمرين الجدد أو إبقاء المستثمرين الحاليين في سوق السندات. وعادة ما يتأثر العائد الثابت بأسعار الفائدة التي تخصم من قيمة السند الحقيقية، في وقت يبحث فيه المستثمرون عن عوائد أعلى.
ويشعر المستثمرون في أنحاء العالم حالياً بالقلق من الفائدة الأميركية المرتفعة على الدولار، بسبب حجم سوق السندات الأميركية الضخم وتأثير الاقتصاد الأميركي ومصرف الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي) على النظام المالي العالمي. وهذا العامل يرفع من كلفة الديون، خاصة في الأسواق الناشئة وأوروبا التي تعاني من ويلات الحرب الأوكرانية.
وحسب هيئة سوق الأوراق والبورصات الأميركية، يقدر إجمالي القيمة السوقية للسندات الأميركية وحدها بأكثر من 51 تريليون دولار، وهي أكبر سوق سندات على مستوى العالم. وشكلت السندات السيادية الأميركية التي تصدرها وزارة الخزانة وحدها نحو 26 تريليون دولار من إجمالي سوق السندات حتى بداية يونيو/ حزيران الماضي.
ولكن رغم ذلك، تعد السندات الخيارَ الآمن للمستثمرين في أوقات الاضطراب المالي، وخاصة بالنسبة للبنوك التجارية وصناديق المعاشات المجبرة على دفع معاشات التقاعد.
ويرى خبراء أن عائدات السندات الأميركية والعالمية عموماً تتجه نحو الارتفاع في العام الجاري. وبالتالي تهدد كلف خدمة الدين بالنسبة للحكومات والشركات، كما تهدد بإفلاس الشركات التي ليست لديها سيولة كافية لتغطية التزاماتها المالية.
في هذا الصدد، يقول سونو فارغيز، الخبير الاستراتيجي العالمي في مجموعة كارسون الأميركية، وهي شركة استشارات مالية: "إن المستثمرين عادة يأملون الحصول على عوائد حقيقية على أموالهم تتناسب مع عوائد السندات التي يشترونها".
وأضاف أنه "في بداية العام، كانت الآمال كبيرة في ذلك، لأن الزيادات القوية والسريعة في أسعار الفائدة على الدولار التي نفذها مجلس الاحتياط الفيدرالي لمكافحة التضخم رفعت العائد على السندات ذات الدرجة الاستثمارية إلى ما يزيد عن 4%. وبالتالي، اعتقد المستثمرون أن الفائدة المصرفية ستتوقف وربما تتراجع، ولذا سيحققون أرباحاً مجزية من السندات، لكن تبين أن الفائدة ربما ترتفع أكثر ويرتفع العائد على السندات ربما إلى نسبة 5%".
وتوقع المحللون على نطاق واسع حدوث تباطؤ اقتصادي في الولايات المتحدة خلال الربع الثالث أو الأخير من العام الجاري، من شأنه أن يدفع أسعار الفائدة إلى الانخفاض وأسعار السندات إلى الارتفاع. وبدت تلك التوقعات ممكنة خلال الأشهر الماضية، خاصة في مارس/آذار الماضي، عندما أثار انهيار بنك وادي السيليكون مخاوف من ركود وشيك.
ولكن منذ ذلك الحين، يرى خبراء أن معنويات المستثمرين تغيرت بشكل كبير، إذ تلاشت المخاوف من الركود. وتبعاً لذلك، ارتفعت توقعات المستثمرين بشأن أسعار الفائدة المستقبلية، وباتوا يعتقدون أن بنك الاحتياط الفيدرالي سيستمر في رفع أسعار الفائدة.
مخاطر السندات السيادية
على صعيد مخاطر ارتفاع العائد على السندات السيادية، يرى محللون أن العائد المرتفع عليها يعني أن كلفة خدمة الديون السيادية سترتفع، وبالتالي تقلل استثمار الحكومات في الاقتصاد، وذلك يضاف إلى هروب المستثمرين من سندات الدول التي تعاني من ضائقة مالية وتقل تلقائياً قدرتها على جمع تمويلات جديدة لتلبية التزاماتها المالية أو الإنفاق على المشاريع والتوظيف.
ولا يستبعد محللون أن يؤدي ذلك إلى تدهور سعر صرف العملات في العديد من الاقتصادات الغربية، مثل بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، وربما تقع الاقتصادات الضعيفة في بركة الركود الاقتصادي.
في هذا الصدد، يرى البروفسور وأستاذ التمويل في جامعة ليفربول البريطانية كوستاس ميلاس أن تدخل بنك إنكلترا في سوق المال لحماية السندات السيادية بشراء السندات السيادية طويلة الأجل بنحو 65 مليار جنيه إسترليني ستكون له تداعيات خطرة على الاقتصاد البريطاني، وهي ارتفاع معدل التضخم وتراجع قيمة الجنيه الإسترليني.
ولا يستبعد البروفسور ميلاس أن تخفض وكالات التصنيف الائتماني تصنيف الديون السيادية في المملكة المتحدة. ويقول إنه عادة ما تراجع وكالات التصنيف الائتماني تصنيف الدول عندما ترتفع حالة عدم اليقين في السياسة الاقتصادية بشكل كبير، أو يرتفع الدين إلى مستويات لا يمكن تحملها، أو عندما تتدهور نوعية الحكم.