بعد عدة عقود من الاستقرار السياسي والرفاهية الاقتصادية تفشت الاحتجاجات في معظم الدول الأوروبية نتيجة موجات الغلاء القياسية التي أعقبت الحرب الروسية الأوكرانية، وارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، في ظل اقتصاديات لم تتعاف كلياً من التداعيات الاقتصادية لكوفيد، وعلى الرغم من مدفوعات الدعم الكبيرة التي سارعت الحكومات بتقديمها في محاولة للتخفيف من حدة الأزمة على المواطنين فقد استمرت تلك الاحتجاجات، بل تطورت في ما قد يتسبب في قلاقل سياسية خلال الفترة القادمة.
وتوالت الموجات الاحتجاجية والإضرابات في أنحاء القارة العجوز خلال الفترة الماضية، رافعة مطالب اقتصادية وسياسية، من بينها إيجاد تسوية سياسية للأزمة الأوكرانية، وزيادة المخصصات الحكومية لمعالجة أزمة غلاء المعيشة، وعلى الرغم من الاستجابة النسبية لبعض الشركات بزيادة الأجور، لكنّ معدلات التضخم المتصاعدة أفقدت تلك الزيادات المحدودة جدواها، الأمر الذي فاقم وتيرة الاحتجاجات والإضرابات.
معدلات تضخم قياسية
شهدت الدول الأوربية تصاعدا محموما في معدلات التضخم منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ففي أغسطس/آب الماضي أفادت منظمة الإحصاء الوطنية البريطانية أن معدل التضخم في المملكة المتحدة ارتفع إلى أعلى مستوى له منذ 40 عاماً ليبلغ 10.1%، وأضافت أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية ساهم في زيادة معدلات التضخم السنوية، وسط أعلى ارتفاع للتضخم منذ عام 1982، واستمر ارتفاع التضخم ليبلغ أعلى مستوى وصل إليه في 41 عاماً بنهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي ببلوغه 11.1%، ورغم تراجعه النسبي بعد ذلك فإنّ مستوياته لا تزال مرتفعة للغاية يقودها استمرار الارتفاع في أسعار السلع الغذائية.
وفي ألمانيا أكدت بيانات صادرة من المكتب الاتحادي للإحصاء أن مستوى التضخم خلال سبتمبر/أيلول الماضي ارتفع إلى 10%، مسجلاً أعلى مستوى منذ خمسينيات القرن العشرين، مدفوعاً بارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، وبصفة عامة شهد عام 2022 ارتفاعاً في معدلات التضخم بألمانيا هو الأعلى منذ توحيد البلاد عام 1990، كما بلغ متوسط ارتفاع أسعار المستهلك على مدار العام الماضي 7.9% مقارنة بعام 2021.
كما ارتفع التضخم في إيطاليا في أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى 11.9% على أساس سنوي، وهو أعلى معدل منذ مارس 1984 (38 عاما)، وفقا لمكتب الإحصاء الوطني "إستات" الذي أشار إلى أن المعدل جاء مدفوعاً بارتفاع أسعار الطاقة بنسبة 73.2%، والمواد الغذائية بنسبة 13.1%، وبلغ معدل ارتفاع تضخم في فرنسا 5.2% على مدى عام 2022 بأكمله، مقارنة بـ 1.6% في 2021.
وبصفة عامة استمر التضخم في منطقة اليورو في الارتفاع ليسجل معدلات قياسية، بلغت ذروتها في يونيو الماضي ببلوغه معدلاً هو الأعلى منذ بدء حفظ السجلات لمنطقة اليورو في عام 1997، واستمر في التصاعد بعد ذلك حيث قفز إلى 10.6% في أكتوبر الماضي، مسجلاً مستوى تاريخياً جديداً، مقابل 9.9% في سبتمبر/أيلول، ورغم انخفاض حدة التصاعد إلا أنه لا يزال عند مستويات فوق القدرة الاحتمالية لمعظم مواطني دول اليورو.
إضرابات متصاعدة
منذ أيام قلائل بدأ إضراب ممرضات 55 مؤسسة صحية في أنحاء إنكلترا لمدة يومين على خلفية نزاع حول الأجور مع الحكومة، كما أعلن اتحاد الممرضات عن معاودة الإضراب مرة أخرى يومي 6 و7 فبراير/ شباط في إنكلترا وويلز ما لم يتم إحراز تقدم بحلول نهاية الشهر الجاري، كما أعلن اتحاد التعليم يوم إضراب وطني في 1 فبراير، تليه سلسلة من الإضرابات الإقليمية طوال 6 أيام في فبراير ومارس/آذار.
وينظم عمال القطاع العام منذ الصيف الماضي موجة من الإضرابات مطالبين بتحسين الرواتب لمراعاة التضخم، وشملت الإضرابات عمال البريد والسكك الحديدية والأساتذة الجامعيين، وسبقهم إلى الإضراب نحو 10 آلاف موظف من سائقي سيارات الإسعاف في إنكلترا وويلز، في 21 و29 كانون الثاني/ ديسمبر بسبب خلاف حول حجم زيادة الأجور، وهو الأمر الذي اضطر الحكومة إلى الدفع بنحو 1200 عنصر من الجيش، للإحلال محل المسعفين.
ومنذ أيام تظاهر أكثر من مليوني شخص في فرنسا، احتجاجا على إصلاح نظام المعاشات التقاعدية، وفي أكتوبر الماضي شهدت البلاد أكثر من 150 مسيرة في أنحاء مختلفة في إطار الإضراب العام في القطاعين الخاص والعام الذي تدعو إليه النقابات العمالية لإجبار الحكومة على رفع الرواتب في مواجهة الغلاء الفاحش الذي يصيب الشرائح الاجتماعية الأكثر هشاشة، ويجعلها عاجزة عن توفير حاجاتها الأساسية، في ظل الارتفاع غير المسبوق لنسبة التضخم الذي هوى بقيم المدخرات العائلية.
وفي أكتوبر الماضي تجمع عشرات الآلاف من المحتجين في ستّ مدن ألمانية، للمطالبة بالمزيد من العدالة في توزيع المخصصات الحكومية للتعامل مع ارتفاع أسعار الطاقة وزيادة دعم أسعار الطاقة للفقراء، وبالتحول سريعا نحو وقف الاعتماد على استخدام الوقود الأحفوري.
ويمكن القول بصفة عامة إن الاحتجاجات شملت معظم البلدان الأوروبية، ففي رومانيا خرج المتظاهرون إلى الشوارع تعبيرا عن استيائهم، كما تجمع آلاف المتظاهرين في شوارع العاصمة التشيكية براغ، مطالبين الحكومة بإيجاد حل للظروف الاقتصادية الصعبة الناتجة عن أزمة الطاقة التي تشهدها البلاد.
وعاشت نابولي الإيطالية، أحد أعنف الاحتجاجات في سبتمبر الماضي، إذ أحرق المتظاهرون الغاضبون فواتير الكهرباء والغاز في الشارع، مرددين شعارات "لن ندفع الثمن!". كما حاصروا مبنى بلدية المدينة، مطالبين بإيجاد حل للبطالة والفقر المتفشيين، واللذين تزداد وطأتهما مع أزمة الطاقة.
دائرة خبيثة من زيادة الأجور
تصر النقابات العمالية الداعية لتلك التظاهرات على أن هذه الاحتجاجات ليست لحظية، بل موجة غضب مستمرة، حتى تجد الحكومة حلولاً ناجعة لتخفيف تبعات الأزمة، بينما على الجانب الآخر تري الحكومات أن الاستجابة لتلك المطالب سيوقعها في فخ دائرة خبيثة من زيادة الأجور التي تؤجج حمى التضخم ثم المطالة بزيادة الأجور من جديد، وهكذا تقع في دائرة مفرغة لن تنتهي.
التوقعات تشير إلى أن الأوضاع في أوروبا قد تزداد تأزماً خلال الفترة المقبلة في ظل الأزمة العويصة التي تشهدها، والتي دفعت العديد من رؤساء الوزراء إلى الاستقالة، ويمكن القول إن الأزمة الحالية تحتاج إلى تدخلات سياسية حكيمة تستطيع أن تقدم حلولا متوازنة بين الأهداف الاستراتيجية في مساندة أوكرانيا وبين الأوضاع الداخلية الصعبة، خاصة بعدما اتضح أن الأزمة الأوكرانية ستستمر لفترة أطول مما قدر لها في البداية، وأن تداعياتها ستستمر هي الأخرى، وأنّ الأوضاع ربما ستكون أسوأ في ظل توقعات متشائمة بشأن الاقتصاد العالمي أو احتمالية إغلاق جديد بسبب متحورات كورونا.
وقد أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤخراً مؤسسة "يوغوف" في كل من فرنسا وألمانيا وبولندا وبريطانيا أن استمرار ارتفاع معدلات التضخم وزيادة أسعار الطاقة والغذاء ستؤدي إلى المزيد من الاضطرابات الاجتماعية في الفترة القادمة، وهو الأمر الذي يوضح بجلاء أن أوروبا على موعد مع أشهر قادمة ساخنة ربما تهدد استقرارها السياسي.