إلى متى يستمر انخفاض الجنيه المصري؟

14 ديسمبر 2022
ضغوط كبيرة تتعرض لها العملة المصرية (Getty)
+ الخط -

سمح البنك المركزي المصري للدولار بالارتفاع مقابل الجنيه المصري، في الجهاز المصرفي الرسمي، بأكثر من 55 في المائة منذ شهر مارس/آذار الماضي، وتشير التعاملات في السوق الموازية المصرية إلى توقعات، على نطاق واسع، بمزيد من الارتفاع للعملة الخضراء، خلال الفترة القادمة، رغم المحاولات المضنية لوقف ارتفاعها.

ارتفع الدولار في السوق الرسمية بسبب ضغوط من صندوق النقد الدولي، الذي تسعى الحكومة المصرية منذ عدة أشهر للحصول على قرض جديد منه، يسمح لها بالوفاء بالتزاماتها بالعملة الأجنبية، ويساهم في سداد فاتورة الاستيراد من الخارج، بعد ارتفاعات كبيرة في أسعار الغذاء والوقود، والعديد من المنتجات الأخرى، التي تستوردها مصر.

وبينما يركز البنك المركزي المصري جل جهوده على استقطاب العملة الأجنبية للبلاد، بغض النظر عن سعرها مقابل العملة المحلية، يتسبب الارتفاع المبالغ فيه في سعر الدولار في تراجع القيمة الحقيقية لأجور العاملين، ومعاشات المتقاعدين، بالإضافة إلى فقدان نسبة كبيرة من القوة الشرائية للمدخرات والاستثمارات والأصول المقومة بالعملة المصرية.

وفي الوقت الذي يتساءل فيه المصريون عمن تسبب في الوصول بالاقتصاد المصري، والعملة المصرية، والمواطن المصري، إلى هذه الحالة، بعد سنوات طويلة من الوعود برخاء قادم، وأوضاع تسمح للجميع بالحياة دون التعرض لضغوط تتعلق بارتفاع تكاليف المعيشة، وصعوبة توفير الحاجات الأساسية من تعليم وعلاج، بالإضافة إلى القلق من المستقبل، بدأت بعض التقارير الصادرة من بنوك الاستثمار العالمية تتحدث عن المبالغة في تقدير السوق الموازية لقيمة العملة الأميركية في مصر.

ويوم الإثنين، أصدر بنك الاستثمار غولدمان ساكس تقريراً عن الاقتصاد المصري، أكد فيه انخفاض سعر الجنيه المصري مقابل الدولار، في السوق الموازية، والسوق المصرفية الرسمية، عما سماه "القيمة العادلة" للجنيه المصري.

وقال البنك إن العملة المصرية يتم تداولها في السوق الموازية بالقرب من سعر ستة وثلاثين جنيها للدولار، بما يخفض قيمة الجنيه بالثلث تقريبا مقارنة بالسعر الرسمي. وأرجع البنك ذلك إلى نقص السيولة بالعملة الأجنبية، مع خلل واضح في ميزان المدفوعات، بعد نزوح مليارات الدولارات من البلاد خلال الربع الأول من العام الحالي.

غولدمان ساكس: انخفاض سعر الجنيه المصري مقابل الدولار، في السوق الموازية، والسوق المصرفية الرسمية، تجاوز "القيمة العادلة" للجنيه المصري

وأكد غولدمان ساكس أن استمرار البنك المركزي في فرض القيود على شراء العملة الأجنبية هو ما يزيد من الاختلالات في السوق، ويضعف صورة الاقتصاد المصري أمام المستثمرين، بما يزيد الضغوط على العملة المصرية، يوشك أن يوقع بها في دائرة لا منتهية من حالات التضخم وانخفاض القيمة.

أوضح تقرير بنك الاستثمار أن الحالة التي وصلت إليها العملة المصرية تؤكد انعدام الثقة، من المصريين قبل الأجانب، في الجنيه. وذكرني تحليل البنك بحالة الدينار اليوغوسلافي (قبل تفكك الاتحاد)، خلال فترة الثمانينيات، حين فقد الشعب اليوغوسلافي الثقة في عملته المحلية، فكان الموظفون يسارعون، فور حصولهم على رواتبهم، لتحويل ما يحصلون عليه في بداية كل شهر، إلى الدولار أو المارك الألماني (وقتها)، من خلال السوق الموازية، خوفا من تراجع قيمة ما لديهم بسبب تراجع قيمة عملتهم كل يوم، ثم يبدأون في تحويل ما يعادل المبالغ المنفقة فقط، حين تقتضي الضرورة ذلك.

بالتأكيد لم تصل حالة العملة المصرية إلى ما وصل إليه الدينار اليوغوسلافي، على الأقل حتى الآن، إلا أن غولدمان ساكس يقول إنه يتعين على البنك المركزي المصري أن يلتزم بالتعويم الكامل للعملة المصرية، حتى يتمكن من الحصول على قرض صندوق النقد الدولي، وأن يفي بكافة احتياجات السوق المحلية من العملة الأجنبية، حتى لا يستمر الارتفاع المبالغ فيه في السوق الموازية.

توقع غولدمان ساكس أن يتخذ البنك المركزي المصري قرارات قوية، خلال الأيام القادمة، تسمح له بمقابلة الطلبات المعلقة لشراء العملة الأجنبية، وهو ما توقع أن ينتج عنه تخفيض قوي في قيمة الجنيه. لكنه أشار إلى أن حجم الانخفاض سيتوقف على ما يمكن للبنك المركزي المصري أن يتخلى عنه من العملة الأجنبية المتاحة له، لمقابلة الطلبات الموجودة في السوق، وأيضا على السياسات النقدية المتبعة لدعم الجنيه، بما فيها رفع معدلات الفائدة أو زيادة الاحتياطي الإلزامي المفروض على البنوك المصرية.

أكد غولدمان ساكس أن الصورة على المدى البعيد تبدو أكثر غموضا، إلا أنه أشار إلى ضرورة سعي البنك المركزي لاستعادة الثقة في العملة المصرية، وفي نظام سعر الصرف المتبع، مشيرا إلى أن تلك الخطوات، لو نجحت في مساعيها، يمكنها أن تساهم في استعادة العملة المصرية جزءا كبيرا مما فقدته من قيمتها، خاصة لو نجحت الحكومة المصرية في إصلاح الخلل الموجود حاليا في الحساب الجاري.

غولدمان ساكس: "استعادة العملة المصرية جزءا كبيرا مما فقدته من قيمتها ممكن، لو نجحت الحكومة في إصلاح الخلل الموجود حاليا في الحساب الجاري"

تقرير البنك جاء كاشفاً وصريحاً، وهو ما لا توفره التقارير الصادرة عن البنوك أو مراكز الأبحاث المحلية، حيث تكثر المحظورات، وتقل التحليلات الواقعية، فتنعدم الفائدة. وكان أهم ما جاء فيه توضيح الأثر الكبير لقرارات البنك المركزي المصري في الفترة القادمة، بعيداً عن الاعتماد على البحث عن مصادر جديدة للاقتراض.

لن تُحل أزمة الاقتصاد المصري والعملة المصرية من خلال اقتراض المليارات، ولا من خلال بيع الأصول المصرية، ولا حتى من خلال ترشيد الإنفاق، حيث إن الأزمة الحقيقية هي استمرار عجز الحساب الجاري، ومن ثم استمرار نزيف العملة الأجنبية في البلاد.

هذه الحقيقة التي تبدو عصية على فهم المسؤولين المصريين، على بساطتها، تتطلب وضع قيود حقيقية على الاستيراد، وبصفة خاصة استيراد السلع غير الضرورية، وبدون ذلك فإن كل ما يتم اتخاذه من قرارات يعد مضيعة للوقت والجهد والمال، بالإضافة إلى ما يتسبب فيه من تدمير لحياة ملايين المصريين، مع كل انخفاض تشهده العملة المصرية.

 

المساهمون