تمكنت الولايات المتحدة حتى الآن من وأد داء التضخم الذي ظل من أكبر تحديات الاقتصاد الأميركي خلال العامين الماضي. وجاء الانخفاض في التضخم بعد الارتفاعات السريعة والمتواصلة التي نفذها مجلس الاحتياطي الفيدرالي لمعدل الفائدة الأميركية التي رفعت بدورها الدولار إلى أعلى مستوياته، ما سبب أزمات اقتصادية للعديد من دول العالم النامي وإفلاسات مصرفية في الولايات المتحدة.
ويرى اقتصاديون أن التراجع الكبير في معدل التضخم الذي أظهرته بيانات يونيو/حزيران إلى نسبة 3% تعني أن أميركا كسبت معركتها ضد غلاء الأسعار حتى الآن، وأنه لن يكون مكافحة التضخم المرتفع أولوية في السياسة النقدية خلال العام الجاري مع اقترابه من المعدل المستهدف بنسبة 2%.
في هذا الصدد قال أستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونز هوبكنز الأميركية، ستيف هانكي، إن الولايات المتحدة لم تعد تعاني من أزمة التضخم. وأضاف في تعليقات نقلتها قناة "سي أن بي سي" الأميركية، أعتقد أن قصة التضخم باتت من الماضي.
وأشار إلى أن أحد أسباب القضاء على التضخم هو تقليص عرض النقود على أساس سنوي بنسبة 4% في الولايات المتحدة، وقال هانكي "لم نشهد مثل الانكماش بالمعروض النقدي منذ العام 1938". وأشار إلى أن "التغيرات في عرض النقود كان وراء تراجع مؤشر الأسعار والتضخم".
ويراهن مستثمرون في السوق الأميركي على أن هناك فرصة بنسبة 92.4% في أن يبقي بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة دون تغيير في اجتماعه في يوليو/ تموز، وذلك وفقًا لأداة "سي أم إي" الأميركية التي تراقب السياسة النقدية الأميركية.
ومن بين العوامل الأخرى التي ساهمت في التراجع الكبير في معدل التضخم الذي بات يقترب من النسبة التي يستهدفها مجلس الاحتياط الفيدرالي المحددة بـ 2%، تشديد البنوك لمعايير منح القروض.
وحسب الخبير المالي بنشرة "بانك ريت" الأميركية، غريغ ماكبرايد، "شددت البنوك معايير الإقراض قبل فترة طويلة واستمرت على ذلك بعد أزمة انهيار بنك سيليكون فالي".
وفي ذات الصدد، أظهر المسح الذي أجراه بنك الاحتياطي الفيدرالي في أبريل / نيسان الماضي وسط مسؤولي القروض بالمصارف التجارية، أن المؤسسات المالية شددت المعايير لكل من قروض الشركات والأسر في الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2023، بما في ذلك قروض الشركات والرهون العقارية، بعد أن ارتفعت أسعار الفائدة، وتسببت في أزمات سيولة بالمصارف الصغيرة. ومعروف أن تشديد سياسات منح القروض تقود إلى تقلص المعروض النقدي في الاقتصاد وبالتالي إلى ضمور القوة الشرائية.
من جانبه قال مصرف "غولدمان ساكس" الأميركي، إن البنوك الصغيرة والمتوسطة كانت من العوامل الرئيسية في القضاء على التضخم. وحسب البنك الاستثماري فإن البنوك الصغيرة والمتوسطة التي لديها أصول تقل عن 250 مليار دولار، لديها حصة 50% من إجمالي القروض التجارية والصناعية في أميركا، إلى جانب حصة 80% من القروض العقارية.
وهذه البنوك عانت من مشكلة سيولة بعد تراجع قيمة استثماراتها في السندات وباتت غير قادرة على تسييلها إلا بخسارة كبيرة.
في ذات الصدد يقدر تحليل منفصل من وكالة موديز للتصنيف الائتماني، أن هذه البنوك تعاني مشكلة في ديون العقارات.
وكان رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالي، جيروم باول، قد قال في مايو/أيار الماضي، إن التركيز بشكل خاص على "المضي قدماً في رفع الفائدة يعتمد على ما يحدث بعد تشديد الائتمان، وعما إذا كانت البنوك الصغيرة ومتوسطة الحجم تشدد معايير الائتمان وتأثير ذلك على حجم القروض ومعدلات الإقراض".
وحسب نشرة " بانك ريت" الأميركية، "منذ الحرب الروسية في أوكرانيا تراجعت أسعار البنزين بأكثر من 26%. وكان لهذا تأثير كبير على الحياة اليومية للعديد من الأميركيين، خاصة الذين يسافرون يومياً من منازلهم إلى أماكن عملهم.
ووفق بيانات مصلحة العمل يوم الأربعاء، هدأ التضخم في يونيو/ حزيران الماضي إلى أبطأ وتيرة له منذ أكثر من عامين، مما أعطى الأميركيين الراحة من فترة مؤلمة من ارتفاع الأسعار، وعزز فرص توقف الاحتياطي الفيدرالي عن رفع أسعار الفائدة بعد زيادة متوقعة هذا الشهر.
وقالت وزارة العمل يوم الأربعاء إن مؤشر أسعار المستهلك ارتفع بنسبة 3% في يونيو/حزيران مقارنة بالعام السابق، وهو أقل من ذروة معدل التضخم الأخير عند 9.1% في يونيو/حزيران 2022، عندما سجلت أسعار البنزين متوسطًا قياسيًا في الولايات المتحدة بلغ 5 دولارات للغالون. كما اخفض معدل يونيو/حزيران من 4 % في مايو/أيار.
وفي تعليقه على التراجع الكبير في معدل التضخم، قال كبير الاقتصاديين في مصرف "كوميريكا بانك"، بيل آدامز لصحيفة "وول ستريت جورنال"، "بعد فترة عقابية من التضخم المرتفع الذي أدى إلى تآكل القوة الشرائية للمستهلكين انفجرت الفقاعة".
وحسب "وول ستريت جورنال"، دفع المستهلكون في أميركا أموالاً أقل في الشهر الماضي لشراء السيارات المستعملة وأسعار تذاكر الطيران، كما ارتفعت إيجاراتهم بأبطأ وتيرة في شهر واحد منذ بداية العام الماضي 2022.
ورحب المستثمرون بالأرقام، التي أكدت أن الاحتياطي الفيدرالي يحرز تقدماً كبيراً في القضاء على التضخم. ومن مؤشرات القضاء على التضخم في أميركا ارتفاع مؤشرات الأسهم وتراجع عائدات السندات.
ويرى اقتصاديون أن سياسة الاحتياطي الفيدرالي كانت صحيحة في رفع أسعار الفائدة إلى أعلى مستوى لها في 22 عاماً، لأن النشاط الاقتصادي لم يتباطأ بالقدر الذي كان متوقعًا. لكن تقرير التضخم يدعو إلى التساؤل عما إذا كان الفيدرالي سيرفع أسعار الفائدة في نهاية الشهر الجاري، كما توقع معظم المسؤولين الشهر الماضي.
في هذا الصدد، قال كبير الاقتصاديين في نشرة "بلومبيرغ إيكونوميكس" ومعهد بيترسون للاقتصاد الدولي، ديفيد ويلكوكس: "أظن أن مجلس الاحتياط الفيدرالي ربما يقرر زيادة أخرى في يوليو/ تموز". ولكن يرى العديد من خبراء الاقتصاد أن بيانات التضخم ستحدد مسار الفائدة على الدولار خلال العام الجاري.
مسار التضخم
تراجع معدل التضخم في الولايات المتحدة إلى 3% في العام الجاري حتى يونيو/حزيران من 4% في 12 شهرًا حتى مايو/آيار. وساهم في هذا التراجع رخص تكاليف الطاقة بنسبة 16.7%. وبإزالة تكاليف الطاقة والغذاء من سلة السلع على أساس التقلبات قصيرة الأجل، ارتفع التضخم الأميركي على أساس شهري 4.8%، وكانت هذه أقل زيادة شهرية منذ يونيو/حزيران 2021.
وينظر الاقتصاديون إلى هذا التراجع الكبير في معدل التضخم على أنه نجاح أميركي مقارنة بما عليه الحال في الوقت الراهن بدول مثل بريطانيا حيث يصل التضخم معدل 8.7%، لأنه يخفف عملياً الضغط على الاحتياطي الفيدرالي في مسار الفائدة المرتفعة، لأن زيادات أسعار الفائدة ترفع تكلفة الاقتراض وتضعف الطلب على السلع، وهي إحدى الأدوات القليلة المتاحة للبنوك المركزية في معركتها ضد قراءات التضخم المرتفعة بعناد.
ولكن البنك الفيدرالي على غرار بنك إنكلترا والبنوك المركزية الأخرى، لديه هدف تضخم طويل الأجل وهو 2%، مما يعني أنه لا يمكن استبعاد المزيد من الزيادات في معدلاته "المستهدفة".
وفي يونيو /حزيران، اختار البنك المركزي الأميركي الاحتفاظ بالفائدة عند 5% - 5.25%، لكن كانت هناك تكهنات بأنه ربما يرفع الفائدة عندما يجتمع في 25-26 يوليو/تموز الجاري. في المقابل رفع بنك إنكلترا أسعار الفائدة من 4.5 إلى 5% في يونيو/حزيران.
ومن المتوقع أن يؤدي معدل التضخم المرتفع باستمرار في المملكة المتحدة إلى زيادة أخرى، ربما إلى 5.25%، عندما يعلن البنك عن قراره الأخير في 3 أغسطس/آب. وتسببت الفائدة المرتفعة على الدولار في أزمات اقتصادية في أوروبا وعدد من دول العالم الثالث خلال العام الماضي.