أصحاب المعاشات هم الفئة الأكثر هشاشة في المجتمع المصري، والذين لا يجب أن تساوم الحكومة على أموالهم بأي حال من الأحوال، باعتبار أن الغالبية منهم أصبحوا غير قادرين على العمل ويتحملون أعباء أسرهم كما لو كانوا يعملون، ولأننا في مصر ندرك ماهية المتطلبات الكبيرة والتحديات التي تواجه رب الأسرة العامل، فندرك أيضاً أن معاناة أصحاب المعاشات تتضاعف عن الفترة التي كانوا يعملون فيها. هذه الفئة يصل عددها إلى عشرة ملايين ونصف مليون نسمة.
وقد نختلف في الإحصائيات لنجد أن عبد الفتاح السيسي في خطاب له خلال افتتاح مشروعات جديدة للمناطق غير الآمنة في محافظة الجيزة قال إن الدولة اكتشفت أن المبلغ المستحق للمعاشات 180 مليار جنيه سنوياً، تدفعه من ميزانية الدولة لـ9 ملايين مستحق للمعاشات؛ وهذا الرقم أقلّ من المعلن رسمياً، ما أثار تكهنات ومخاوف حول نية الدولة تجاه مليون ونصف مليون من أصحاب المعاشات الذين لم يذكرهم السيسي.
هذه المخاوف محقة في إطار سوابق عن أرقام قالها السيسي عن المستفيدين من بطاقات الدعم التموينية وفهمها الجمهور على أنها خطأ أو سهو، لكنه فيما بعد جرى التخلص من الأعداد الزائدة عنها فعلياً
هذه المخاوف محقة في إطار سوابق عن أرقام قالها السيسي عن المستفيدين من بطاقات الدعم التموينية وفهمها الجمهور على أنها خطأ أو سهو، لكنه فيما بعد جرى التخلص من الأعداد الزائدة عنها فعلياً، وخُفّض عدد المستفيدين إلى الرقم الذي ذُكر بطريقة أو بأخرى، حيث وصل عدد المستفيدين من دعم سلع التموين إلى 63.6 مليون فرد في مشروع الموازنة العامة للدولة 2021/2022 على نحو 20 مليون بطاقة تموينية كما ذكر السيسي ذات مرة.
وفي ما يخص عدد أصحاب المعاشات والمستفيدين من المعاشات، فإن آخر تحديث لبيانات وزارة التضامن الاجتماعي جاء بتقرير لها في شهر يوليو/تموز 2021 يبلغ نحو 10 ملايين و529 ألفاً و320 مواطناً ومستفيداً، ما يعني أن السيسي أسقط مليوناً و529 ألفاً و320 مستفيداً، أما هيئة التأمينات الاجتماعية فأشارت آخر إحصائية لها إلى أن إجمالي عدد المستفيدين من صرف معاشات المتقاعدين عن العمل لبلوغهم سنّ المعاش أكثر من 10 ملايين مواطن.
الموظف يظل يدفع ما نسبته 14% من قيمة راتبه حتى يتقاضى معاشاً يليق به عند تقاعده، أو هكذا يأمل، لكن الواقع غالباً ما يأتيه كما تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، صاحب العمل يفترض أن يدفع نسبة 26% ليكون الإجمالي الشهري المدفوع 40% تذهب إلى صندوق المعاشات، ليواجه عندها طريقة حساب معقدة يحسبُ بها المعاش على أساس 80% من متوسط المرتب لآخر 5 سنين في الخدمة، فيما يتوقف ذلك كله على أن يكون صاحب العمل ملتزماً دفع نسبته نيابة عن العامل، وإلا يسقط الحق في طلب المعاش أو تقاضيه.
تستفيد الحكومة من إدارة أموال المعاشات أكثر من أصحابها ومستحقيها بطرق عديدة، منها الاستثمار في صندوق أموال المعاشات من خلال عدد من البنوك، كان على رأسها بنك الاستثمار القومي التابع للدولة، والدلالة هنا تفيد بأنه كان يجب أن يكون البنك المستثمر في تلك الأموال تابعاً لوزارة التضامن الاجتماعي لا وزارتي المالية أو التخطيط، غير ذلك تتعرض تلك الأموال خلال استثمارها لسعر فائدة ضعيف كان في بدايته لا يزيد على نسبة 2% حتى رُفع بعد مناشدات طويلة وجماعية.
وما يثير علامات تعجب واستفهامات أكثر، أنه في وقت كانت فيه أسعار الفائدة تصل إلى 20% في البنوك التجارية، كان بنك الاستثمار القومي أو الصكوك الحكومية تمنح نسبة لا تزيد على 9% كفائدة لصناديق المعاشات، أي نصف النسبة المعمول بها في السوق تقريباً، ليصبح من المنطقي أن نتساءل: أين يذهب نصف النسبة الثاني بما أنه لا يصل إلى أصحاب المعاشات؟ أين تذهب مبالغ بهذه الضخامة؟
مرات، وتحديداً في عام 2010، تحدثت وزيرة التأمينات الاجتماعية السابقة ميرفت التلاوي عن رفضها لطلب يوسف بطرس غالي وزير المالية آنذاك استثمار 200 مليار جنيه من أموال التأمينات في بنك أميركي، في حين أنه عندما حاولت هي استثمار أموال التأمينات في الشركة المصرية لخدمات الهاتف المحمول بنجاح استثماري وصفته بالمضمون، أجبرها رئيس الوزراء آنذاك كمال الجنزوري على بيع حصة صندوق التأمينات لمصلحة مستثمر محدد اتضح فيما بعد أنه نجيب ساويرس.
ما يثير علامات تعجب واستفهامات أكثر، أنه في وقت كانت فيه أسعار الفائدة تصل إلى 20% في البنوك التجارية، كان بنك الاستثمار القومي أو الصكوك الحكومية تمنح نسبة لا تزيد على 9% كفائدة لصناديق المعاشات
وفي ذلك مواقف وشهادات كثيرة تثبت أن نية ومحاولات الاستثمار في أموال صندوق المعاشات مستمرة من قِبل الحكومات المتعاقبة لصالحها هي لا مستحقيها، غير وقائع السرقة والنهب المستمرة والمتمثلة باقتراض أموال الصندوق المستمر لسد عجز الموازنة والمضاربات دون إعادتها أي المبالغ الأصلية لا الفوائد أو عوائد الاستثمارات إلى أصحابها أو إلى الصندوق، ما يعني غياباً متعمداً لآليات المحاسبة والرقابة والاعتماد على أموال الطبقة الأكثر هشاشة اقتصادية في المجتمع للتغطية على عجز الحكومة وفشلها في تدبير وتوفير إيرادات طبيعية لموازنتها السنوية التي يزيد من العجائب أن فيها بنداً أو أكثر في أوجه الإنفاق يتعلق بالمعاشات.
من واقع تقارير رسمية، فإن مديونية الحكومة لصندوق المعاشات وصلت إلى 642 مليار جنيه، منها 56 ملياراً مستحقة على بنك الاستثمار القومي و370 ملياراً، هي صكوك للصناديق؛ فإذا كان هذا هو فقط حجم المديونية الرسمية، فكم تبلغ قيمة إجمالي المبالغ في صندوق المعاشات الضخم؟
في هذه الآونة ظهرت تصريحات رسمية تتحدث عن الاستثمار في بورصة "يوروكلير" في بلجيكا، منها ما جاء على لسان مستشارة نائب وزير المالية نيفين منصور التي قالت إن الحكومة تعمل على تسريع وتيرة العمل بآلية يوروكلير لمقاصة السندات، ما اعتبرته ضامناً لتدفقات إضافية جديدة تصل إلى 4 مليارات دولار بعد إدراج مصر ضمن مؤشر فوتسي راسل الجديد للسندات، وهو ما توقعه وزير المالية محمد معيط نفسه، وإذا كان انضمام سندات مصر إلى مؤشر FTSE سيعزز السيولة في السوق كما أدعت، فإنه سيرهن الأصول والتصرف فيها.
الحكومة تعمل الآن تحت شعار دولة الصناديق، فنجد صندوق مصر السيادي وصندوق تحيا مصر وغيرهما، ولا تخضع تلك الصناديق إلا لرقابة أعلى رأس في الدولة وتشترط لوائحها عدم الإفصاح عن أي طرف تتعاقد معه، كذلك أُعفيَت أي معاملات لها من أي ضريبة أو دمغة أو خلافه، حتى تقطع كافة الطرق على تتبع آثار عملياتها، ولو من الأطراف الأخرى التي تبرم معها الصفقات.
بل يستعان بها من قبل الحكومة كشريك وبالتحديد صندوق مصر السيادي في إدارة أصول المصريين التي ستُستغَلّ، كما تقول الحكومة، فيما أفسره على أنه تصفية وبيع أو تسنيد طالما اتجهت الحكومة إلى أبواب مقاصة يوروكلير في بلجيكا التي ستحول الأصول المصرية المملوكة الآن إلى صندوق مصر السيادي بحكم قرارات رئاسية تعاقبت سريعاً العامين الماضيين إلى أوراق مالية قابلة للتداول والمضاربة والبيع والشراء وانتقال الملكية لتصبح الأصول الموجودة في شوارعنا ومحافظاتنا ملكاً لغير المصريين ممن يريدون امتلاك قرارنا أو احتلالنا اقتصادياً ثم مكانياً من خلال ملكيتهم لمبانينا وأصولنا.
الأكثر مرارة أن تسعى الدولة لطرح قيمة الأصول لبورصة المقاصة وتتسلم قيمها النقدية لسداد مديونياتها وفوائدها، ومن ثم تعجز فيما بعد عن سداد قيم الأصول الفعلية، ما يعني فقدانها لمصلحة من يملك أو من يملكون أوراق التداول والعقود، شركات كانت أو دولاً أو أفراداً.
الأكثر مرارة أن تسعى الدولة لطرح قيمة الأصول لبورصة المقاصة وتتسلم قيمها النقدية لسداد مديونياتها وفوائدها، ومن ثم تعجز فيما بعد عن سداد قيم الأصول الفعلية
هذا السيناريو نفسه محتمل وقوعه على صندوق أموال المعاشات القابل كما غيره للمضاربة والتسنيد، وهو ما نطالب الحكومة بالكف عن استغلاله بطريقتها المعتادة كما شرحنا سابقاً ونزيد في مطالبتنا عدم سحبه إلى مقاصة يوروكلير حتى لا تفقد مصر أموال 10 ملايين ونصف مليون من مواطنيها في لعبة إن صح التعبير، ويأتي التحذير من باب أن فرص الحكومة لسداد ديونها تضيق وخياراتها أضيق من أي وقت مضى وأصبحت عيونها على أموال أصحاب المعاشات.
نرجو الحفاظ على فرصة أخيرة على أصول مصر وممتلكات شعبها في الأبنية والشركات والصناديق، ونناشد عقلاء الدولة من صانعي القرار الاقتصادي التدخل وإبداء آراء حقيقية للقائمين على الأمر إذا كانوا لا يدركون العواقب الوخيمة الكارثية على أجيال حالية وأخرى ربما لم تولد بعد نتيجة الخطوة المرتقبة.